الآيات 19 - 22

﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَجَـهَدَ فِى سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَووُنَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ19 الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنَد اللهِ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة مِّنْهُ وَرِضْوَن وَجَنَّـت لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ21 خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ22﴾

سبب النزول

هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات - محل البحث - منقولة في كتب أهل السنة والشيعة، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.

يروي "أبو القاسم الحسكاني" عالم أهل السنة المعروف، عن بريدة، أن "شيبة" و"العباس" كان يفتخر كلُّ منهما على صاحبه، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: فيم تتفاخران؟

فقال العباس: حُبيت بما لم يُحبَ به أحد وهو سقاية الحاج.

فقال شيبة: إني أعمر المسجد الحرام، وأنا سادن الكعبة.

فقال علي (عليه السلام) : على أنّي مستحي منكما، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما.

فقالا: وما ذاك؟!

فقال: جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فخرج العباس مغضباً إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاكياً عليّاً فقال: ألا ترى ما يقول؟

فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أدعو لي عليّاً فلمّا جاءه علي قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لِمَ كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟

فقال (عليه السلام) : إذا كنت أغضبته، فلما بينّتُ من الحق، فمن شاء فليرضَ بالقول الحق ومن شاء فليغضب.

فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول: اتل هذه الآيات: (اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) (1).

وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة، كتفسير الطبري والثعلبي، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي، ومعالم التنزيل للعلاّمة البغوي، والمناقب لابن المغازلي، وجامع الأصول لابن الأثير، وتفسير الفخر الرازي، وكتب أُخرى. (2)

وعلى كل حال، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة، التي يقرّ بها حتى المتعصبون، وسنتكلم عنه مرّة أُخرى بعد تفسير الآيات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل:

مع أنّ للآيات - محل البحث - شأناً في نزولها، إلاّ أنّها في الوقت ذاته تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة، ونظير ذلك كثير في القرآن.

فالآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم والآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).

"السقاية" لها معنى مصدريٌ وهو إيصال الماء للآخرين، وكما تعني المكيال، كما جاء في الآية 70 من سورة يوسف (فلمّا جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) وتعني الإِناء الكبير أو الحوض الذي يُصب فيه الماء.

وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى ب- "سقاية العباس" وكان معروفاً آنئذ، ويبدو أنّ هناك إناءً كبيراً فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.

ويحدثنا التأريخ أنّ منصب "سقاية الحاج" قبل الإِسلام كان من أهل المناصب، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إِلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة (3) التي يقل فيها الماء، وجوّها حار أغلب أيّام السنة، وكانت هذه الحاجه الماسة تولي موضوع "سقاية الحاج" أهميّة خاصّة، ومن كان مشرفاً على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.

وكذلك "عمارة المسجد الحرام" أو سدانته ورعايته، كان لها أهميته الخاصّة، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزاً دينياً، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترماً.

ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإِيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأُولئك هم الفائزون).

وأمّا الآية الثّالثة - من الآيات محل البحث - فتقول: إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرن والمجاهدين في سبيله ثلاثَ مواهب هي:

1 - (يبشّرهم ربّهم برحمة منه).

2 - (ورضوان).

3 - (وجنات فيها لهم نعيم مقيم).

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول (خالدين فيها أبداً إنّ الله عند أجر عظيم).

ملاحظتان

1 - تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفاً في شأن نزول الآيات محل البحث، وطبقاً لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة، أنّها نزلت في علي (عليه السلام) وبيان فضائله، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع "وقد قلنا مراراً بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي".

إلاّ أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإِمام علي (عليه السلام) فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند علي (عليه السلام) من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين: لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله، وسعوا جاهدين لأن يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل علي (عليه السلام) على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتداً إِلى عصرنا الحاضر، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل اسنة، إذ أظهر كلاماً عجيباً عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث، فقال: في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم "أصولها وفروعها" من مصادرنا وكتبنا، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلاّ أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب، قال: أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! "طبعاً كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأُولى".

فقلت له: ليس هذا هو الأُسلوب في التحقيق، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال: إنّه صحيح، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن، حتى لو كان الحديث معتبراً.

فما أحسن أن نختار أُسلوباً آخر للتحقيق بدل ذلك، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن: لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه، بل نسوها وربّما طعنوا فيها، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الإِلتفات إِلى ما ذكرناه آنفاً، ننقل كلاماً لصاحب تفسير "المنار" المعروف، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفاً، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا، وينبغي أن نعدّها حديثاً مخالفاً للقرآن، فقال عنها: إنّها معتبرة!

وهي ما نُقَل عن النعمان بن بشير إذ يقول: كنت جالساً في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره، فقال بعضهم: لا أرى عملاً بعد الإِسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم، وقال الآخر: إن عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل، فقال الثالث، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - وكان ذلك اليوم يوم الجمعة - ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة - صلاة الجمعة - في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إِلى رسول الله فسأله عن ذلك، فنزلت الآيات محل البحث (4).

إلاّ أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانباً ويُعرضَ عنها; لأنّه:

أوّلا: لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة، والإِيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أُخرى، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإِيمان والجهاد.

فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان - كل منهما - مع الإِيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقايه الحاج (لاحظ بدقة).

ثانياً: إنّ جملة (والله لا يهدي القوم الظالمين) تدل على أن أعمال الطائفة الأُولى كانت معروفة بالظلم، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك، لإنّ القرآن يقول (إن الشرك لظلم عظيم) (5).

ولو كان القياس بين الإِيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإِيمان والجهاد، لكانت جملة (والله لا يهدي القوم الظالمين) لغواً - والعياذ بالله - لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثاً: إنّ الآية الثّانية - محل البحث - التي تقول (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة) مفهومها أن أُولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان - آنف الذكر - لأنّ المتكلمين وفقاً لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعاً: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يُستدلَ عليههو التعبير بـ (أعظم درجة) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلاّ أنّ الجواب على ذلك واضح، لأنّ أفعل التفضيل غالباً تستعمل في الموازنة بين أمرين، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد، كأن يقال مثلا: الوصول متأخراً خير من عدم الوصول، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن (والصلح خير) أي من الحرب سورة النساء الآية 28 فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلاً (ولعبد مؤمن خير من مشرك) سورة البقرة الآية 221 ترى هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية 108) (لمسجد أسس على التقوى من يوم أحق أن تقوم فيه) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبداً، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانباً، وأن نأخذ بما يسنجم وظاهر الآي، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات، على أنّه سبب لنزولها، وأنّه لفضيلة كبرى لإِمام الإسلام العظيم علي (عليه السلام).

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين، وأن يجنبنا التعصب، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

2 - ما هو مقام الرضوان

يستفاد من الآيات - محل البحث - أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله، هو شيءٌ غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (72) من هذه السورة، في تفسير جملة (ورضوان من الله أكبر) إن شاء الله.


1- تفسير مجمع البيان، ذيل الآيات محل البحث.

2- لمزيد الإِيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق، ج 3، ص 122 - 127.

3- "المرمضة" مشتقة من "الإِرماض" أي شديدة الحر، والأرض الرمضاء كذلك: شدية الحر.

4- تفسير المنار، ج 10، ص 215.

5- سورة لقمان: الآية 13.