الآيتان 17 - 18

﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـجِدَ اللهِ شَـهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أَوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـلَهُمْ وَفِى النَّارِهُمْ خَـلِدُونَ17 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـجِدَ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيُومِ الاَْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أَوْلَـئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ18﴾

التّفسير

مَن يعمر مساجد الله؟

من جُملة المسائل التي يمكن أن تخالط اذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد، هو: لِمَ نُبْعِد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه "المادية والمعنوية" إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله فالآيتان - محل البحث - تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس لها، وتصّرح الآية الأُولى منهما بالقول: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر).

وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وأعمالهم، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.

ثمّ تشير الآية إِلى فلسفة هذا الحكم فتقول: (أُولئك حبطت أعمالهم).

ولذلك فهي لا تجديهم نفعاً: (وفي النّار هم خالدون).

فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إِلى ذلك، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.

فالله طاهر منزّه، وينبغي أن يكون بيته طاهراً منزّهاً كذلك، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.

أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام - إكمالا للحديث آنف الذكر - فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد، فتقول; (إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر).

وهذا النص إشارة إِلى الشرطين الأوّل والثّاني، اللذين يمثلان الأساس العقائدي، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإِنسان أي عمل خالص نزيه، بل لو كان عمله في الظاهر سليماً فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.

ثمّ تشير الآية إِلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).

أي أن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب، بل تؤيده الأعمال الكريمة، فعلاقة الإِنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة، وأن يؤدي صلاته باخلاص، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية، فيؤدي الزكاة إليهم.

وتشير الآية إِلى الشرط الخامس والأخير فتقول: (ولم يخشَ إلاّ الله).

فقلبه مليءٌ بعشق الله، ولا يحسُّ إلاّ بالمسؤولية في امتثال أمره ولايرى لأحد من عبيده أثراً في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول: (فعسى أُولئك أو يكونوا من المهتدين) فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

ملاحظات

1 - ما المراد من العمارة

هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه، أو تعني الإِجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!

إختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير "عمارة المسجد" في الآية - محل البحث - غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأُمور وما شاكلّها جميعاً.

فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد، وليس لهم أن يبنوا مسجداً - وما إِلى ذلك - بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.

ويستفاد من الآية - ضمناً - أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين - بل جميع الفرق غير الإِسلامية - هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها، لأنّ الآية الأُولى وإن كانت تتكلم على المشركين، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة "إنما" لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.

ومن هنا يتّضح أيضاً أنّ متولي المساجد ومسؤوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس، ولا يُنتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعاً في ماله وثروته، أو مقامه الإِجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد، إذ تولّى مساجدها من ليس لها أهلا.

بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.

ومنذ أن تدخل في اُمور المساجد والمراكز الإِسلامية أو أشرف عليها حكام الجور، أو الأثرياء المذنبون، فقدت تلك المساجد والمراكز الإِسلامية "حيثيتها" ومكانتها ومُسخت مناهجها البنّاءة، ولذا فنحن نرى كثيراً من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.

2 - العمل الخالص ينبع من الإِيمان فحسب

قد يتساءل بعضنا قائلا: ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!

لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إِلى أنّ الإِسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإِيمان في كل مكان، فالعمل ثمرة نيّة الإِنسان وعقيدته دائماً وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائماً، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصاً.

3 - الحماة الشجعان

تدل عبارة (ولم يخشَ إلاّ الله) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلاّ في ظل الشهامة والشجاعة، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإِنسان وذات منهج تربوي عال إلاّ اذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعاناً لا يخشون أحداً سوى الله، ولا يتأثرون بأي مقام، ولا يطبقون منهجاً غير المنهج الإِلهي.

4 - هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام، مع أنّ ألفاظ الآية عامّة، ولا دليل على هذا التخصيص، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإِسلامية في مقدمتها، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية، إلاّ أنّ ذلك لايدلّ على تخصيص مفهوم الآية.

5 - أهمية بناء المساجد

وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة، تدّلُ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.

فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة" (1).

كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له مادام في ذلك المسجد ضوؤه" (2).

إلاّ أنّ ما هو أكثر أهميةً هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.

فالمسجد ينبغي أن يكون مركزاً لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إِلى إيقاظ الناس، وتطهير البيئة والمحيط، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإِسلام.

وينبغي الإِلتفاوت إِلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزاً للشباب المؤمن، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين، فالمسجد مجال للنشاط الإِجتماعي الفعال، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.


1- ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار، ج 1، ص 213.

2- كتاب المحاسن، ص 57 حسب نقل كنزالعرفان، ج 1، ص 108.