الآيات 7 - 10
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَـهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَـمُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ7 كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًَّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفَوهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـسِقُونَ8 اشْتَرَوْا بِأَيَـتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون9 لاَيَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِن إِلاًَّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ10﴾
التّفسير
المعتدون النّاقضون العَهدَ:
كما لاحظنا في الآيات السابقة الإِسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان - إلاّ جماعة خاصّة - وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.
وفالآيات - محل البحث - بيان لعلة إلغاء العهود من قِبل الإِسلام، فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاماً إنكارياً: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) ؟!
أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قِبَلِ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جانب واحد، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.
ثمّ استثنت الآية مباشرةً أُولئك الذين لم ينقضوا عهدهم، بل بقوا أوفياء له، فقالت: (إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين).
وفي الآية التالية يُثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد، ويُستفهم عنه استفهاماً إنكارياً أيضاً، إذ تقول الآية: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًَّ ولا ذمّة).
وكلمة "الإلُّ" معناها القرابة، وقال بعضهم: إنّها تعني هنا العهد والميثاق.
فعلى المعنى الأوّل أي "القرابة" يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشاً تربطها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض المسلمين علاقة قربى، إلاّ أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حُرمتها، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترامَ علاقتهم بها.
وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة "إلّ" مؤكَّدةً بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضاً، قال الراغب في المفردات: إن "الإل" كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره (1).
وتضيف الآيه معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت: (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم).
لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الإِنتقام وعدم الإِعتناء بالعهد وعلاقة القربى، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.
وفي نهاية الآية إشارة إِلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم، فتقول: (وأكثرهم فاسقون).
وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا فصدوا عن سبيله).
وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعةً من الناس، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الطريق.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إِلى هذه القصة، إلاّ أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.
ثمّ تعقب الآية بالقول: (إنّهم ساء ما كانوا يعملون) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها، وحّرموا الهداية، وهُم في الوقت ذاته أوصدوا الطريق بوجه الآخرين، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!
أمّا في آخر آية من الآيات - محل البحث - فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة، إذ تقول الآية: (لا يرقبون في مؤمن إلاًَّ ولا ذمة).
وهذه الخصلة فيهم لم يُبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم (وأُولئك هم المعتدون).
وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة، إلاّ أنّ هناك فرقاً بينهما، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمةً لخصوص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المتقّين حوله (كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًَّ ولا ذمّة) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن (لا يرقبون في مؤمن إلاًَّ ولا ذمّة).
أي إن المشركين لا ينظرون اليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة - نظرة العداء والبغضاء - يَنظر بها المشركون إِلى كلّ مؤمن، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهداً، فهم في الحقيقة أعداء الإِيمان والحقّ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضاً حيث يقول: (وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) (2).
ملاحظتان
1 - من هم المستثنون في هذه الآية؟
جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم: (إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!
إلاّ أنّه بملاحظة الآيات السابقة، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أُولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنَانة وبني خزيمة وأضرابهم.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.
وما قوله تعالى: (عاهدتم عند المسجد الحرام) فلعل هذا التعبير يشير إِلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفاً بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام، إلاّ أن مشركي قريش نقضوا عهدهم، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة.
أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.
ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة "حولي 48 ميلا" فقد عُدّت المنطقة كلها جزءاً من المسجد الحرام، كما نقرأ عن ذلك في الآية (196) من سورة البقرة، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام).
والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره "أو دار أهله" أكثر من 48 ميلا عن مكّة.
فبناءً على ذلك لا مانع أبداً من أن يطلق على الحديبية، التي تبعد 15 ميلا عن مكّة، تعبير: عند المسجد الحرام.
وأمّا قول بعضهم: إن الإِستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترماً، فهذا القول يبدو بعيداً، بل هو غير صحيحى، لأنّه.
أوّلا: من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد، فنقضهم مقطوع به، ولا مراء فيه، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذاً؟!
ثانياً: إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة، فبناءً على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة، لا يمكن أن تكون ناظرةً إليهم.
2 - متى يجور الغاء المعاهدة؟
كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّاً مراراً، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إِلى الإسلام دون الإِلتفات إِلى المعاهدة وجهوها.
وهذا المقدار من عملهم كاف لإِلغاء عهدهم.
1- المفردات، ص 20.
2- سورة البروج، الآية 8.