الآيتان 5 - 6
﴿فَإِذَا انسَلَخَ الاَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ5 وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـمَ اللهِ ثمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ6﴾
التّفسير
الشدّة المقرونة بالرّفق:
نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد إنتهاء مدّة إمهال المشركين "الأشهر الأربعة" وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (1).
ثمّ يقول: (وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) (2).
ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين "إيصاد الطرق بوجههم، محاصرتهم، أسرهم، ثمّ قتلهم".
وظاهر النص أنّ الأُمور الأربعة ليست على نحو التخيير، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص، والعمل بما يناسب هذه الأمور، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها، وإلاّ فلا محيص عن قتالهم.
وهذه الشدّة متناغمة ومتوأئمّة مع منهج الإِسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها، وكما أشرنا إِلى ذلك سلفاً، فإنّ حرية الإِعتقاد "أي عدم إكراه أهل الأديان الأُخرى على قبول الإِسلام" تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا تشمل عبدة الأوثان، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة، ولا ديناً كي تُلحظ بعين الإِحترام، بل هي تخلّف وخرافة وإنحراف وجهل، ولابدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.
وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق، - طريق الرجوع نحو التوبة - بوجههم، بل لهم أن يثوبوا إِلى رشدهم ويعودوا إِلى سبيل الحق، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلّوا سَبيلَهُم).
وفي هذه الحال، أي عند رجوعهم نحو الإِسلام، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين، وسيكونون سواءً وإياهم في الحقوق والأحكام.
(فإنّ الله غفور رحيم).
يتوب على عباده المنيبين إليه.
وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإِسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة، وليس هو الإِستثمار أو الإِستعمار وإمتصاص المال، أو الإِستيلاء على أراضي الآخرين، إذ تقول الآية: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).
أي عليك أن تعامل من يلجأ اليك من المشركين برفق ولطف، وامنحه المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإِرادة والحرية، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.
ثمّ تضيف الآية قائلة: (ثمّ أبلغه مأمنه) وأوصله إِلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.
وأخيراً فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم، فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون).
فبناءً على ذلك لو فُتحت أبواب إكتساب المعرفة بوجوهم، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل - وإلتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.
وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاً (عليه السلام) بعد إلغاء المعاهدة فقال: يابن أبي طالب، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة "الأشهر الأربعة" ويسأله أو يسمع كلام الله منه، أهو آمن؟!
فقال علي (عليه السلام) : أجل، إنّ الله يقول: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجرهُ) (3).
وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأُولى - محل البحث - واللين المستفاد من الآية التي تليها، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين، ليكون منهما الدواء الناجع.
ملاحظات
1 - ما المراد من الأشهر الحرم؟
بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيراً في هذا الشأن، إلاّ أنّه - مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة - يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة الإِمهال للمشركين، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وإنتهت بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.
وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين، والأهم من ذلك أنّ كثيراً من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضاً (4).
2 - هل الصّلاة والزّكاة شرطُ في قبول الإِسلام؟
يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لابدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.
إلاّ أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإِسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما، كما هي الحال في المشركين يومئذ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين "الصلاة، والزكاة".
أو أنّ المراد هو أن يُقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافراً، بل يعدّ إسلامه ناقصاً.
وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر، إلاّ أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.
3 - الإِيمان وليد العلم
يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإِيمان هو الجهل، وأساس الإِيمان الأصيل هو العلم، لهذا فينبغي توفير الإِمكانات اللازمة لإِرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ، ولا يقبلوا الإِسلام بواسطة التقليد الاعميق.
1- الفعل "انسلخ" مأخوذ من الإِنسلاخ ومعناه الخروج، وأصله من "سلخ الشاة" أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.
2- المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.
3- تفسير البرهان، ج 2، ص 106 وتفسير الفخر الرازي، ص 226.
4- ورد في تفسير نور الثقلين، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).