الآيات 55 - 59

﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ55 الَّذِينَ عَـهَدتَّ مِنْهُمْ ثمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّة وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ56 فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ57 وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىْ سَوَآء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَآئِنِينَ58 وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ59﴾

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إِلى طائفة أُخرى من أعداء الإِسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالأحداث، إلاّ أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مُرّاً وكانت عاقبة أمرهم خُسراً.

وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحقّهم، الأُسلوب الذي فيه عبرة للآخرين، كما فيه درءٌ لخطر هذه الطائفة.

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول: (إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون).

ولعل التعبير بـ (الذين كفروا) يشير إِلى أنّ كثيراً من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهر (صلى الله عليه وآله وسلم) وفقاً لما وجدوه مكتوباً عنه في كتبهم، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأُمور لظهوره.

ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر، فكفروا به وأظهروا عناداً شديداً في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم، وكما يقول القرآن الكريم: (فهم لا يؤمنون).

وتقول الآية الأُخرى: (الذين عاهدت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كل مرّة) (1).

والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الاضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلاهم يخافون الله تعالى، ولا يحذرون من مخالفة أوامره، ولا يراعون القواعد والاصول الانسانية: (وهم لا يتقون).

والتعبير ب- "ينقضون" و"لا يتقون" وهما فعلان مضارعان، هذا التعبير بهما يدلّ على الإِستمرار، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضُوا عهودهم مراراً. (2)

والآية بعدها توضح كيفية أُسلوب مواجهة هؤلاء فتقول: (فإِمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم مَن خلفهم) أي قاتلهم بشكل مدمّر بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة "تثقفنهم" مأخوذة من مادة "الثقف" على زنة "السقف" بمعنى بلوغ الشيء بدقة وسرعة، وهي إشارة إِلى وجوب التنبه والإِطلاع السريع والدقيق على قراراتهم، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة "شرّد" مأخوذة من مادة "التشريد" وهي بمعنى التفريق المقرون بالإِضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأُخرى من الأعداء وناقضي العهود، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضاً ويتجنبوا الحرب مع المسلمين، وليتجنب نقض العهد - كذلك - الذين لهم عهود مع المسلمين، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا (لعلهم يذكّرون).

(وأمّا تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد (إنّ الله لا يحب الخائنين).

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم، إلاّ أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافاً ودون سبب بل عندما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة "فانبذ إليهم" من "الإِنباذ" وهي بمعنى "الإِلقاء" أو "الإِعلام" و"الرّد" أي: ردّ عليهم عهودهم واعلن عن إلغائها جهراً.

والتعبير ب- "على سواء" إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها، فألغهِ أنت من جهتك أيضاً، فهذا حكم عادل، يتساوى وما فعلوه.

أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال، فإنّ الآية - محل البحث - في الوقت الذي تنذر فيه المسلمين من نقض العهد، وتحذرهم أن يكونوا هدفاً وغرضاً لهجوم العدّو، فهي تدعوهم إِلى رعاية مبادىء الإِنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - يُوجه تعالى الخطاب إِلى ناقضي العهد، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا أنّهم لا يعجزون).


1- "من" في جملة "عاهدت منهم" إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم...

كما يرد هذا الإِحتمال وهو أن معنى "عاهدت منهم" هو أخذت العهد منهم.

2- بالإِضافة إِلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضاً وهي "في كل مرّة" ... .