الآيات 45 - 47
﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ45 وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـزَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ46 وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ47﴾
التّفسير
ستة أوامر أُخرى في شأن الجهاد:
قال المفسّرون: إنّ أباسفيان بعدما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين، أرسل مبعوثاً إِلى قريش الذاهبين إِلى ساحة بدر ودعاهم إِلى العودة، لأنّه رأى أن لا حاجة إِلى القتال، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر "وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز إجتماع العرب، وتقام فيها سوق تجارية كل عام" ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام، وينحروا الإِبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر، وتغني لهم المغنيّات، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!... لكن أمرهم آل إِلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر، وجلست المغنيات ينُحن على جنائزهم!!
والآيات محل البحث تشير إِلى هذا الموضوع، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إِلى ما سبق من هذه الأُمور.
وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي:
1 - أنّها تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) أي أن إحدى علائم الإِيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال، وخاصّة في مواجهة الأعداء.
2 - (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).
ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب، بل حضور القلب، وذكر عِلمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة، فهذا التوجه إِلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين، ويُشعر الجندي بأنّ سنداً قويّاً لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمهُ في ساحة القتال.
وإذا قُتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى، وجوار رحمة الله، فذكر الله يبعث على الإِطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.
بالإِضافة إِلى ذلك، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال، والأولاد من قلبه، فإنّ التوجه إِلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله، كما يقول الإِمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعائه المعروف - في الصحيفة السجادية - بدعاء أهل الثغور: "وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنّة نصبَ أعينهم".
3 - كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الإِلتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول: (وأطيعوا الله ورسوله).
4 - (ولا تنازعوا فتفشلوا) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إِلى الضعف وخور العزيمة، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم (وتذهب ريحكم).
"والريح" في اللغة، هي الهواء.
فالنزاع يولد الضعف والوهن.
وأمّا ذَهاب الريح، فهو إشارة لطيفة إِلى زوال القوّة والعظمة، وعدم سير الأُمور كما يرام، وعدم تحقق المقصود، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إِلى مقاصدها، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.
وحركة الرّيح في الرّايات والبيارق تدل على إرتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.
5 - ثمّ تأمر الآية بالإِستقامة بوجه العدوّ، وفي قبال الحوادث الصعبة، فتقول: (واصبروا إنّ الله مع الصابرين).
والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل، والإِستقامة والصبر في الأمر الخامس، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية، "الجسمية" أمّا الإِستقامة والصبر فليسا ظاهريين، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.
6 - وتدعو الآية الأخيرة- من الآيات محل البحث - المسلمين إِلى اجتناب الأعمال الساذجة البَلهاء، ورفع الأصوات الفارغة، وتشير إِلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه، فتقول: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله).
فأهدافهم غير مقدسة، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة، وسقط بعضهم مضرجاً بدمائه في التراب، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم، بدل أن يشربوا الخمر في حفل إبتهاجهم، وتختتم الآية بالقول: (والله بما يعلمون محيط).