الآيات 42 - 44
﴿إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَـدِ وَلَـكِن لِّيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَة وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ 42 إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَْكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـزَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَلَـكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ43 وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ44﴾
التّفسير:
الأمر الذي لابدّ منه:
يعود القرآن في هذة الآيات الكريمة - ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إِلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير - يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة، ليطلع المسلمون على أهمية ذلك النصر العظيم.
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى).
"العُدوة" مأخوذة من "العدو" على زنة "السَّرْو" ومعناها في الأصل التجاوز، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء، وحواشيه، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إِلى إحدى الجوانب، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي "الطرف، والجانب".
"والدنيا" مأخوذة من الدنّو، على وزن العلوّ وتعني الأقرب، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.
وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إِلى جهة المدينة، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.
ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لإِضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.
ثمّ تعقّب الآية قائلةً: (والركُب أسفلَ منكم).
وكما رأينا من قَبلُ فإنّ أبا سفيان حين علم بتحّرك المسلمين غيّر مسير قافلته إِلى جهة أُخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريباً من مكّة، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول: (ولو تواعدتم لإختلفتم في الميعاد).
لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر، وكما تقول الآية: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و (ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بينة).
والمراد من "الحياة" و"الهلكة" هنا هو الهداية والضلال، لأنّ يوم بدر الذي سُمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإِمداد الإِلهي لنصرة المسلمين، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.
وتعقبّ الآية قائلةً: (وإنّ الله لسميع عليم).
فقد سمع نداء استغاثاتكم، وكان مطلعاً على نيّاتكم، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.
إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم، مع أنّ طائفة أُخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة جميع الشدائد، لهذا فإنّ الله جعل الأُمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون - شاءوا أم أبوا - مع أعدائهم، فكانت المواجهة المصيرية.
وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين، وكانت هذه الرؤيا إشارة إِلى النصر وبشارة به، فقد رواه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.
وبالطبع فإنّ رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه كانت صحيحة، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية، إلاّ أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأُمور.
والآية الثّانية: من الآيات محل البحث تشير إِلى الحكمة من هذا الأمر، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق، فتقول: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيراً لفشلتم) ولهبطت معنوياتكم، ولم يقف الامر عند هذا الحدّ، بل لإدّى ذلك إِلى التنازع واختلاف الكلمة (ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلَّم) وانقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء، و لأنّ الله يعرف باطنكم (إنّه عليم بذات الصدور).
وتُذكّر الآية الأُخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال - كنزول المطر لرفع العَطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة - تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له، فتقول الآية المباركة: (وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا).
أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم، فكان ينظر إِلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّاً، بل رآهم أقل ممّا هم عليه، إذ تقول الآية في الصدد (ويقلّلكم في أعينهم).
حتى روي عن أبي جهل أنّه قال: إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة.
أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.
وعلى كل حال: فقد كان تأثير هذين الامرين كبيراً في نصر المسلمين، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فزال كل خوف ورعب من نفوسهم، ومن جهة أُخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إِلى هزيمتهم.
لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلةً: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب، بل إن إرادته نافذة في كل شيء (وإلى الله تُرجَع الإمور).
وفي الآية (13) من سورة آل عمران إشارة إِلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر، إذ تشير إِلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الاسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق، أصابهم الذعر والخوف الشديد، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإِسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إِلى هزيمتهم وتمزقهم.
وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض، لا بين الآيات محل البحث، ولا بينها وبين الآية (13) من سورة آل عمران، لإنّ كلاًّ من هذه الآيات تبيّن مرحلةً من مراحل المعركة.
فالمرحلة الأُولى: هي ما قبل القتال، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.
والمرحلة الثّانية: هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعَدَد الأعداء وعُدَدِه وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.
والمرحلة الثّالثة: هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم، وما رأوه من مشاهد قللّت عدد أعدائم في أعينهم "فتأملوا بدقّة!".