الآيات 38 - 40

﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينَ38 وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ39 وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَـكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ40﴾

التّفسير

من المعلوم في أُسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.

والآية الأُولى: من الآيات محل البحث تتبع هذا الأُسلوب ذاته، فتأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل للذين كفروا إن ينتهوا بغفر لهم ما قد سلف).

ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإِسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام، كما في عبارة "الإِسلام يجبُّ ماقبله" أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن "الإِسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله" (1).

والمقصود من الحديث آنفاً هو أنّ كل ما عمله الإِنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قَبلَ إِسلامه فسوف يُمحى عنه بقبوله الإِسلام، ولا يكون قبوله للاسلام أثر رجعي لما سبق، لهذا ورد في كتب الفقه عدمُ وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلم.

وتضيف الآية قائلة: إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم (وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأولين).

والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء، وما أصاب المشركين عندما واجهوا النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة بدر.

فنحن نقرأ في سورة غافر، الآية: (51) : (إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

ونقرأ في سورة الاسراء، الآية (77) : بعد بيان سحق أعداء الإِسلام قوله تعالى: (سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).

ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إِلى الحق، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولابدّ بعد الآن من اللين والتساهل، ترفعُ هذه الشبهة الآية التالية وتقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله).

وكلمة "الفتنة" - كما بيناها في تفسير الآية (193) من سورة البقرة - ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.

وتطلق الفتنه أيضاً علىالضغوط التي يفرضها الأعداء، للوقوف بوجه اتساع دعوة الإِسلام، ولإِسكات صوت أهل الحق، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.

وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والإِجتماعية من المسلمين.

ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك، بقرينة قوله: (ويكون الدين لله) وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.

الهدف من الجهاد وبُشرى كريمة:

تشير الآية آنفة الذكر إِلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما:

1 - القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الارض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإِنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم، ولكن عبادة الأصنام ليست ديناً ولا فكراً، بل هي خرافة وجهل وإنحراف، وعلى الحكومة الإِسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإِعلام و التبليغ الإِسلامي - أوّلا - وإذا لم يؤدّ ذلك إِلى نتيجة فيجب اللجوء إِلى القوة لتدمير معابد الأوثان.

2 - نيل الحرية في نشر الإِسلام والتبليغ له، وفي هذا القسم أجاز الإِسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.

وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير "روح البيان" للآلوسي، وتفاسير شيعية أُخرى، عن الإِمام الصادق (عليه السلام) "لم يجيء تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعدُ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد ما بلغ

الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى".(2)

ولقد أنكر صاحب تفسير المنار - لتعصبه - هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهدي (عليه السلام)، وذلك لحكمه المُسبق المخطيء في هذه القضية، والعجيب أن له ميلا خاصاً في تفسيره إِلى الفكر الوهابي، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإِمام المهدي (عليه السلام) من الأُمور المسلّم بها، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.

وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (33) من سورة التوبة، كما سنشير إِلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا "المصلح العالمي الكبير".

وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إِلى الإِعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!

وأخيراً فإنّ الآية في نهايتها، وتزامناً مع الشدة في العمل، تمدّ يد المحبّة والرأفه إِلى الأعداء مرّة أُخرى فتقول: (فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون خبير) ولكن اذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين: (وإن تولوا فاعلموا أنّ الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير).


1- صحيح مسلم وفقاً لما نقله صاحب المنار في تفسيره، ج 9، ص 665.

2- راجع مجمع البيان، ذيل الآية، وتفسير نور الثقلين، ج2، ص155، تفاسير أُخرى.