الآيات 31 - 35

﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ31 وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَاب أَلِيم32 وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ33 وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ34 وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ35﴾

التّفسير

القائلون شططاً:

ذُكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامةً في الفكر ولا صحة في العمل، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.

تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذه إن هذا إلاّ أساطير الأولين).

كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته، وكانوا يعرفون جيداً أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن، إلاّ أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس، كانوا يقولون: إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبداً، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إِلى ابقاء كيانهم الاجتماعي - كسائر الجبايرة في التأريخ - إِلى أمر معدود.

والآية التّالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول: (وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).

لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبداً، وإلاّ فإنّ أحداً يحتمل حقانية الإِسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

كما ويحتمل أيضاً أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبساطائهم أنّ رسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باطلة تماماً، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون.

وكأنّهم - أي المشركين - يريدون أن يقولوا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين، وإنّ الله قد أهلك أعداءَهم بحجارة أمطرها عليهم "كما هي الحال في شأن قوم لوط" فإن كنت صادقاً فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) (في مجمع البيان) أنّه لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النعمان بن الحارث الفهري، فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عندالله؟

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : "واللّه الذي لا إله إلاّ هو، إن هذا من الله".

فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله (1).

وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير، لأنّ سبب النزول: لم يكن موضوع النعمان، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن (ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) "وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأُولى من سورة المعارج (سأل سائل بعذاب واقع) بإذن الله".

وفي ماتقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اشكالين:

الأوّل منهما: واضح البُطلان، وهو قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا.

فلم يردّ عليه القرآن.

بديهي أن هذا الإِدعاء أجوف كاذب، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبداً ولجاءوا به، فلا حاجة إذن للردّ عليه.

والإِشكال الثّاني: لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة، من الآيات محل البحث، بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).

وفي الحقيقة أنّ وجودك - يا رسول الله - الذي هو رحمة للعالمين، يمنع من نزول البلاء بسبب هذه الذنوب، فيهلك قومُك كما هلكت الأُمم السابقة جماعات أو متفرقين.

ثمّ تعقيب الآية بالقول: (وما كان الله معذبهم وهم يسغفرون).

وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا: غفرانك ربّنا، وكان ذلك سبباً لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة.

وقال بعضهم: إنّ الآية تشير إِلى من بقي من المؤمنين في مكّة، لأنّ بعضاً ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منع من نزول العذاب.

كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إِلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.

كما لا يبعد - في الوقت ذاته - الجمع بين هذه الإِحتمالات كلّها في تفسير الآية، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إِلى جميع هذه الإِحتمالات.

وعلى أية حال، فإنّ مفهوم الآية لا يختصُّ بمعاصري النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس.

لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإِمام علي، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإِمام علي "ابن عباس" أنّه قال (عليه السلام) : "كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به، وقرأ هذه الآية" (2).

ويتّضح من الآية - محل البحث، والحديث آنف الذكر - أنّ وجود الأنبياء (عليهم السلام) مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد، ثمّ الإِستغفار والتوبة والتوجه والضراعة نحو الله، إذ يعدُّ الإِستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.

فإذا انعدم الإِستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب اللّه لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.

وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة، كالسيل مثلا، أو الحروب المدمّرة، أو في صور أُخرى.

وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإِمام على (عليه السلام) قوله "اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء".

فهذا التّعبير يدل على أنّه لولا الإِستغفار فإنّ كثيراً من الذنوب قد تكون سبباً في البلاء والكوارث.

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة، وهي أنّ الإِستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة، كأن يقول المرءُ "اللهم اغفر لي" بل المراد منه روح الإِستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.

والآية التّالية: تقول: إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام).

وهذا التعبير في الآية يشير إِلى يوم كان المسلمون في مكّة، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية، والإِطمئنان عند المسجد الحرام، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.

أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة، فلم يأذنوا لهم بالتردد إِلى المسجد الحرام.

والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفَما شاءوا في المسجد الحرام، وأنّهم أولياؤه.

إلاّ أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا: (وما كانوا أولياءه) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه فـ (إن أولياؤه إلاّ المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون).

ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام، إلاّ أنّه يشمل جميع المراكز الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم إهتماماً بالمحافظة على مراكز العبادة، ليجعلوها منطلقاً للتعليم وبثّ الوعي والإِيقاظ.

إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنةٌ من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب، الذين يسعون إِلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إِلى محال تجاربة، أو جعلها مكاناً لتخدير الأفكار، والإِبتعاد عن الحقّ.

وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد، لكانت المجتمعات الإِسلامية اليوم لها وجه آخر وصورةٌ مشرقةٌ!

والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءاً وتصدية).

ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عندما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة، وورد أيضاً أنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس، ويشرع بالصلاة، كان يقف إِلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.

تعقب الآية على ما تقدم لتقول: إنّ أعمالكم - بل حتى صلاتكم - مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).

إنّ الإِنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثاً عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن، يرى - ويا للعجب العجاب! - في عصرنا الحاضر الذي عُرف بعصر الفضاء والذرة من يُعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية، ويتصوّر نفسه في عبادة، فيقرؤون الآيات القرآنية أو الأشعار في مدح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام علي (عليه السلام) بالألحان الموسيقية ذات الإِيقاع المثير، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص، ويسمّون ذلك ذكراً ومدائح، ويقيمونها في التكايا وغيرها.

مع أنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال "الجاهلية".

ويبقى هنا سؤال واحد، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعاً، والآية الرّابعة أثبتت تُرىْ ألا يقع التضاد بين الآيتين؟

والجواب: إنّ الآية السابقة إِلى العقاب الدنيوي، والآية اللاحقة لعلها إشارة إِلى العقاب الأُخروي، أو أنّها إشارة إِلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم، فإذا مضى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.


1- راجع مجمع البيان، ج 5، ص 352 و تفسير نورالثقلين، ج 2، ص 151.

2- نهج البلاغه، الكلمات القصار.