الآيتان 27 - 28
﴿يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـنَـتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ27 وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلَـدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ28﴾
سبب النزول
لقد وردت عدّة روايات في سبب نزول هاتين الآيتين، منها ما ورد عن الإِمامين الباقر والصّادق (عليهما السلام) من أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بمحاصرة يهود (بني قريضة) واستمرت هذه المحاصرة واحداً وعشرين يوماً، حتى أُجبروا على المطالبة بالصلح، كما جرى ذلك مع اليهود من (بني النضير) وذلك بأن يرحلوا عن أرض المدينة إِلى أرض الشام، لكن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفض ذلك العرض (لعلّه كان يشك في صدق نيّاتهم) وقال: يجب القبول بحكم (سعد بن معاذ) لكنّهم طلبوا من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل إليهم (أبا لبابة) وهو من أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وكانت له معهم صداقة قديمة، وكانت عائلته وأبناؤه وأمواله عندهم.
فقبل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الطلب وأرسل (أبا لبابة) إليهم فاستشاروه: هل من مصلحتهم القبول بتحكيم (سعد بن معاذ) ؟
فأشار أبو لبابة إِلى حلقه، بمعنى أنّكم لو قبلتم فسوف تقتلون فلا ترضوا بهذا العرض، فهبط أمين الوحي جبرائيل (عليه السلام) إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك.
يقول أبو لبابة: فواللّه ما زالت قدماي حتى عرفت إنّي خنت الله ورسوله، وعند ذاك نزلت هذه الآيات في أبي لبابة.
وقد عاد أبو لبابة معلناً ندمه الشديد وأتى بحبل وربط نفسه به إِلى أحد أعمدة مسجد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال: واللّه لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى يموت أو يقبل الله توبته.
واستمر على هذه الحال دون أكل وشرب إِلى سبعة أيّام، حتى فقد وعيه وسقط على الأرض مغشياً عليه، فقبل الله توبته، وقام المؤمنون بإبلاغة الخبر، لكنّه أقسم أن لا يفكّ نفسه من العمد حتى يأتيه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويفك عنه الحبل، فجاءه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفكّ حبله، وقال (أبولبابة) : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي اصبت فيها بالذنب وأن انخلع من مالي، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له: "يجزيك الثلث أن تصدّق به" (1).
وقد جاء هذا المضمون نفسه في كتب أهل السنة حول سبب النزول:، إلاّ أنّ بعضهم استبعد النّزول في شأن (بني قريضة)، لأنّ سابقاتها من الآيات تتعلق بحادثة بدر، ولأنّ هذه القضية لم تقع إلاّ بعد مدّة طويلة من واقعة بدر، لهذا قالوا: إنّ المقصود في الرّوايات هو أنّ حادثة بني قريضة من مصاديق الآية، لا أنّها نزلت فيها، وإنّ هذه العبارة يوردها الكثيرون في أسباب النّزول.
فعلى سبيل المثال فقد جاء في بعض الكتب نقلا عن بعض الصحابة أنّ الآية الفلانية قد نزلت في قتل عثمان، غير أنّ من المعلوم أنّ قتل عثمان حدث بعد سنين طويلة من وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويحتمل أيضاً أن الآية قد نزلت في بني قريضة، ولكن بما أنّها كانت تتناسب والآيات النازلة في قضية بدر، فقد أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلحاقها بتلك الآيات.
التّفسير
الخيانة وأساسها:
يوجه الله سبحانه في الآية الأُولى من الآي محل البحث الخطاب إِلى المؤمنين فيقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله).
إنّ الخيانة لله ورسوله، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإِلهية، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس) : إنّ من ترك شيئاً من الأوامر الإِسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.
ثمّ تقول الآية: (وتخونوا أمّاناتكم) (2).
و (الخيانة) في الأصل معناها: الإِمتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشملُ شؤون الحياة الإِجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة، ولذلك جاء في الأحاديث: "المجالس بالأمانة".
ونقرأ في حديث آخر: "إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة.
ومن ذلك تكون أرض الإِسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضاً.
وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى، وقد قال بعضهم: إنّ أمانة الله هي أوامره، وأمانة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سنته، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم، ولكن الأمانة في الآية - آنفاً - تشتمل على كل ذلك.
على كل حال، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب.
فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
حيث قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم".
كما أن ترك الخيانة في الأمانة يُعدّ من الحقوق والواجبات الإِنسانية، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.
ويقول القرآن في آخر الآية: (وأنتم تعلمون) أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة، ولكن تُقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإِنسان، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه... فيخون الله ورسوله، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم; والمهم أن يستيقظ الإِنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.
والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة، لئلا تلقى على عيونهم وآذاتهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إِلى الخطر فتقول: (واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة).
وكلمة "فتنة" - كما ذكرنا - تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الإِمتحان، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لإِمتحان الإِيمان والكفر والشخصية وفقدانها، وميزان القيم الإِنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).
فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه، والمحافظة عليه و ميزان التعلق به، كل تلك ميادين لإِمتحان البشر، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإِلهية ومسائل الحق والعدل والإِنسانية جانباً.
أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإِنسان وبراعم حياته المتفتحة، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإِنسانية، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم، فكأنّ ستاراً يلقى على أفكارهم فينسون كل الأُمور، ويصير حبّهم لأبنائهم سبباً ليحُلُّوا الحرام ويحرموا الحلال، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر، فيجب علينا الإِعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للإِمتحان، وأن نحذر بشدّة، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبداً بذلك.
فإذا زلت لنا قدم يوماً، فيجب علينا الإِسراع في تصحيح المسير ك- (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الإِنحراف، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.
وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً، فتقول: (وإنّ الله عنده أجر عظيم).
فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.
وهنا تثارُ أسئلة كثيرة، منها: لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟
ولماذا يكون الإِمتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟
وما هي مواد الإِمتحان الإِلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟
وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأُولى من التّفسير الأمثل.
1- نور الثقلين، ج 2، ص 143.
2- "تخونوا) في الأصل (لا تخونوا) وقد حذفت (لا) بقرينة الجملة السابقة.