الآيات 24 - 26

﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ24 وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ25 وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاَْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَأَوَكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ26﴾

التّفسير

دعوة للحياة:

تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنّها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر، فتقول إبتداءاً: (يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

فهذه الآية تقول بصراحة: إنّ دعوة الإِسلام هي دعوة للعيش والحياة، الحياة المعنوية، الحياة المادية، الحياة الثقافية، الحياة الإِقتصادية، الحياة السياسية، الحياة الأخلاقية والإِجتماعية، وأخيراً الحياة والعيش بالمعنى الصحيح على جميع الأصعدة، وهذه أقصر وأجمع عبارة عن الإِسلام ورسالته الخالدة، إذا سأل أحد عن أهداف الإِسلام، وما يمكن أن يقدمه، فنقول جملة قصيرة: إنّ هدفه هو الحياة على جميع الأصعدة، هذا ما يقدمه لنا الإسلام.

ترى هل كان الناس موتى قبل بزوغ الإِسلام ونزول القرآن ليدعوهم القرآن إِلى الحياة...؟

وجواب هذا التساؤل: نعم، فقد كانوا موتى وفاقدي الحياة بمعناها القرآني، لأنّ الحياة ذات مراحل مختلفة أشار إِلى جميعها القرآن الكريم.

فتارةً تأتي بمعنى (الحياة النباتية) كما يقول القرآن: (اعلموا أنّ الله يحيى الأرض بعد موتها) (1).

وتارةً تأتي بمعنى (الحياة الحيوانية) مثل: (إنّ الذي أحياها لمحي الموتى) (2).

وتارةً بمعنى (الحياة الفكرية والعقلية) مثل: (أوَ مَن كان ميتاً فأحييناه). (3)

وتارة بمعنى "الحياة الخالدة في العالم الآخر) مثل: (يا ليتني قدمت لحياتي) (4).

وتارة بمعنى (العالم والقادر بلا حد ولا نهاية) كما نقول عن الله: (هو الحي الذي لا يموت).

وبالنظر إِلى هذه الأقسام التي ذكرناها نعرف أنّ الناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية، وكانوا بعيدين عن الحياة الإِنسانية والمعنوية والعقلية، فجاء القرآن ليدعوهم إِلى الحياة.

ومن هنا نعلم أنّ من يضع الدين في قوالب جامدة لا روح فيها بعيداً عن مجالات الحياة، ويختزله في مسائل فكرية واجتماعية صرفة فقد جانب الصواب كثيراً، لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة في كل جوانب الحياة، ويحيي الفكر والثقافة والإِحساس بالمسؤولية، ويوجد التكامل والرّقي والوحدة والتألف، فهو إذاً يبعث الحياة في البشرية بكل معنى الكلمة.

وبذلك تتّضح هذه الحقيقة أيضاً وهي أن الذين فسّروا الآية بمعنى واحد هو الجهاد أو الإيمان أو القرآن أو الجنّة، واعتبروا كل واحد من هذه الأُمور هو العامل الوحيد للحياة في الآية المباركة، هؤلاء في الحقيقة حددوا مفهوم الآية، لأنّه يشتمل على كل ذلك وأكثر حيث يندرج، - ضمن مفهوم الآية - كل شيء، وكل فكر، وكل قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة.

ثمّ يقول تعالى: (واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون).

إنّ المقصود بالقلب هنا - كما ذكرنا سابقاً - الروح والعقل، أمّا كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟

فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة.... فتارةً قيل: إنّه إشارة لشدّة قرب الله من عباده، فكأنّ الله في داخل روح العبد وجسمه، وكما يقول القرآن الكريم: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).

وقيل: إشارة إِلى أنّ تقلب القلوب والأفكار هو بيد الله، كما نقرأ في الدعاء: (يا مقلب القلوب والأبصار).

وقيل: إنّ المقصود هو أنّ الانسان لولا اللطف الإلهي غير قادر على معرفة الحق من الباطل.

وقيل أيضاً: إنّ المقصود هو أنّه ما دام للناس فرصة فينبغي عليهم أداء الطاعات وأعمال الخير، لأنّ الله قد يحول بواسطة الموت بين المرء وقلبه.

ويمكن بنظرة شاملة جمع كل التفاسير في تفسير واحد، هو أنّ الله عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات.

فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة، كلّها بيديه وتحت قدرته، فلا يمكن للإِنسان كتمان أمر ما عنه، أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه.

لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإِنسان.

وإرتباط هذه الجُمل مع سابقتها من جهة أنّه لو دعا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إِلى الحياة، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كل شي.

وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تريد أن تقول: إنّكم لستم اليوم في دائرة قدرته فحسب، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر، فأنتم في محضره وتحت قدرته هنا وهناك.

ثمّ تشير إِلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة الله ورسوله إِلى الحياة فتقول: (واتقوا فتنة لا تصبينّ الذين ظلموا منكم خاصّة).

وكلمة (فتنة) استعملت في القرآن المجيد بمعان مختلفة، فقد جاءت تارةً بمعنى الإِختيار والإِمتحان، وتارة بمعنى البلاء والعذاب والمصيبة، وهي في الأصل بمعنى إدخال الذهب في بوتقة النّار ليتميز جيده من رديئه، ثمّ استعملت بمعنى الإِختيارات التي تكشف الصفات الباطنية للإِنسان، واستحدثت في الإِبتلاء والجزاء الذي يبعث الصفاء في روح الإِنسان ويطهّره من شوائب الذنوب، وأمّا في هذه الآية فإنّ كلمة (فتنة) بمعنى البلاء والمصائب الإِجتماعية التي يصاب بها الجميع فيحترق فيها الأخضر مع اليابس.

وفي الحقيقة فشأن الحوادث الإِجتماعية هو هكذا، فإذا ما توانى مجتمع ما عن أداء رسالته، وإنهارت القوانين على أثر ذلك، وإنعدم الأمن، فإنّ نار الفتنة ستحرق الأبرار مع الأشرار، وهذا هو الخطر الذي يحذر الله تبارك وتعالى منه ويحذر في هذه الآية المجتمعات البشرية كلّها.

ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولين عن أداء وظائفهم، وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً، لأنّ الإِختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدي إِلى إنهياره، ويتضرر بذلك الجميع، فلا يصحّ أن يقول أحد بأنّنى أؤدي رسالتي الإِجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم، لأنّ آثار القضايا الإِجتماعية ليست فردية ولا شخصية.

وهذا الموضوع يشبه تماماً ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إِلى مئة ألف مقاتل، فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو، وهذا الإِنكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الإِجتماعية.

ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي: أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسؤولون في التصدّي للاشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أُولئك مصيرهم عند الله كما ورد ذلك في حديث مشهور عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصّة والعامّة) (5).

ويتّضح ممّا قلناه أنّ هذا الحكم يصدق في مجال الجزاء الإِلهي في الدنيا والآخرة، وكذلك في مجال النتائج وآثار الأعمال الجماعية (6).

وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول: (واعلموا أنّ الله شديد العقاب) لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإِلهية وينسوا شدّة الجزاء الإِلهي، فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب، كما أحاطت المجتمع الإِسلامي، وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإِلهية.

فنظرة قصيرة إِلى مجتمعنا الإِسلامي في زماننا الحاضر والإِنكسارات التي أصابته أمام أعدائه، والفتن الكثيرة، كالإِستعمار والصهيونية، والإِلحاد والمادية، والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد، والتخلف العلمي، كل ذلك يجسد مضمون الآية، وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير، وكل عالم وجاهل، وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الإِجتماعية للمسلمين، ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

ويأخذ القرآن الكريم مرّة أُخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا لعلهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول: (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أنّ يتخطفكم الناس).

وهذه عبارة لطيفة تشير إِلى الضعف وقلّة العدد التي كان عليها المسلمون في ذلك الزمن، وكأنّهم كانوا شيئاً صغيراً معلقاً في الهواء بحيث يمكن للأعداء أخذه متى أردوا، وهي إشارة لحال المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء.

أو إشارة لحال المسلمين في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم: (فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).


1- الحديد، 17.

2- فصلت، 39.

3- الأنعام، 22.

4- الفجر، 24.

5- تفسير المنار، الجزء 9، ص 638.

6- فقد جرى الحديث بين المفسّرين حول كلمة "لا تصيبنّ" في أنّها هل هي صيغة نفي أو نهي، فالذين قالوا بالنهي وفسّروها بمعنى اتّقوا الفتن لأنّها لا تصيب الظالمين وحدهم، وقال بعض: إنّها صيغة نفي ولكن لما يعتقده علماء العربية بأنّ نون التوكيد لا تظهر في النهي وجواب القسم، فقد إعتبروا الجملة جواباً لقسم مقدر.