الآيتان 194 - 195
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ 194 أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْد يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثمّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ 195﴾
التّفسير
هاتان الآيتان - محل البحث - تواصلان الكلام على التوحيد ومكافحة الشرك، وتكملان ما عالجته الآيات السابقة، فتعدّان كل شرك في العبادة عملا سفيها و بعيداً عن المنطق والعقل!
والتدفيق في مضمون هاتين الآيتين يكشف أنّهما تبطلان منطق المشركين بأربعة أدلة، والسرّ في كون القرآن يعالج إبطال الشرك باستدلالات مختلفة، وكل حين يأتي ببرهان مبين، لأن الشرك ألدُّ أعداء الإِيمان، وأكبر عدوّ لسعادة الفرد والمجتمع.
ولما كانت للشرك جذور مختلفة وأفانين متعددة في أفكار البشر، فإنّ القرآن يستغل كل فرصة لقطع جذوره الخبيثة... وأفانينه التي تهدد المجتمع الإِنساني.
فتقول الآية الأُولى من هاتين الآيتين: (إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم).
فبناءً على ذلك لا معنى لأن يسجد الإِنسان لشىء مثله، وأن يمدّ يد الضراعة والحاجة إليه، وأن يجعل مقدّراته ومصيره تحت يده!
وبتعبير آخر: إنّ مفهوم هذه الآية هو أنّكم - أيّها المشركون - لو أنعمتم النظر لرأيتم معبودائكم ذات أجسام و أسيرة المكان والزمان، وتحكمها قوانين الطبيعة، وهي محدودة من حيث الحياة و العمر والإِمكانات الأُخرى.
وخلاصة الأمر: ليس لها امتياز عليكم، وإنّما جعلتم لها امتيازاً عليكم بتصوراتكم وتخيلاتكم!
ثمّ إنّ كلمة "عباد" جمع "عبد" ويطلق هذا اللفظ على الموجود الحي، مع أن الآية استعملته في الأصنام، فكانت لذلك تفاسير متعددة...
التّفسير الأوّل: أنّه من المحتمل أن تشير الآية إلى المعبودين من جنس الإِنسان أو المخلوقات الأُخرى، كالمسيح إذ عبده النصارى، والملائكة إذ عبدتها جماعة من المشركين العرب.
والتّفسير الثاني: أنّ الآية تنزلت وحكت ما توهمه المشركين في الأصنام بأنّ لها القدرة، فكانوا يكلمونها ويتضرعون إليها، فالآية - محل البحث - تخاطبهم بأنّه على فرض أنّ للأصنام عقلا و شعوراً، فهي لا تعدو أن تكون عباداً أمثالكم.
التّفسير الثّالث: أنّ العبد في اللغة يطلق أحياناً على الموجود الذي يرزح تحت نيز الآخر ويخضع له، حتى لو لم يكن له عقل وشعور، ومن هذا القبيل أنّ العرب يطلقون على الطريق المطرّق بالذهاب والإياب أنّه "معبّد".
ثمّ تضيف الآية: أنّكم لو تزعمون بأنّ لهم عقلا وشعوراً (فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين).
وهذا هو الدليل الثّاني على إبطال منطق المشركين، وهو كون الأصنام لا تستطيع أن تعمل شيئاً، وهي ساكتة عاجزة عن الإِجابة والردّ... وفي البيان الثّالث تبرهن الآية على أنّ الأصنام أضعف حتى من عبادها المشركين، فتساءل مستنكرةً: (ألهم أرجل يمشون بها أو لهم أيد يبطشون (1) بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها).
وهكذا فإنّ الأصنام من الضعة بمكان حتى أنّها بحاجة إلى من يدافع عنها ويحامي عنها، فليس لها أعين تبصر بها، ولا آذان تسمع بها، ولا أرجل تمشي بها، ولا أي إحساس آخر.
وأخيراً فإنّ الآية تبيّن ضمن تعبير هو في حكم الدليل الرّابع مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل ادعوا شركاءكم ثمّ كيدون فلا تنظرون).
أي إذا كنت كاذباً، وأنّ الأصنام مقربات عندالله، وقد تجرأتُ عليها فلِمَ لا تعضبُ عليّ؟
وليس لها ولا لكم ولمكائدكم أي تأثير علي.
فبناءً على ذلك فاعلموا أنّ هذه الأصنام موجودات غير مؤثرة، وإنّما تصوراتكم هي التي أضْفَتْ عليها ذلك التوهّم!.
1- يبطشون فعل مشتق من "البطش" على زنة "العرش" ومعناه الإِستيلاء بالشدّة والصولة والقدرة!...