الآيات 179 - 181

﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِّنَ الجِنِّ وَالاِْنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاَذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَئِكَ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـئِكَ هُمُ الْغَـفِلُونَ 179 وَللهِ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أسْمَـئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون 180 وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون181﴾

التّفسير

علائم أهل النّار:

هذه الآيات تكمل الموضوع الذي تناولته الآيات المتقدمة حول العلماء الذين ركنوا إلى الدنيا، وعوامل الهداية والضلال.

والآيات - محل البحث - تقسم الناس إلى مجموعتين... وتحكي عن صفاتهما وهما أهل النّار، وأهل الجنّة.

فتتحدث عن المجموعة الأُولى - أهل النّار أوّلا، فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس).

وكلمة "ذرأنا" مشتقّة من "ذَرَأَ"، وتعني هنا الإِيجاد والخلق، غير أنّها في أصل اللغة تعني نشر الشيء وتفريقه، وقد وردت بهذا المعنى "الثّاني" في القرآن أيضاً، كما في عبارة (تذروه الرّياح) (1).

ولأنّ خلق الكائنات يستلزم تفريقها وتوزيعها وانتشارها على وجه الأرض، فقد جاءت هذه الكلمة بمعنى خلق "المخلوق" أيضاً:

وعلى كل حال، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس) ؟

في حين قال في مكان آخر (وما خلقت الجن والإِنس إلاّ ليعبدون) (2) وطبقاً لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تُشمّ منه رائحة الجبر في الخلق، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.

لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّاً دون أن نُبتلى بالسطحيّة، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامناً في الآية محل البحث ذاتها، كما هو بيّن في آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً... بحيث لا يدع مجالا لأنّ تُستغل الآية ليُساء فهمها لدى بعض الأفراد.

مثلُ هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا: إنّ قسماً كبيراً من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبواباً جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام... فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.

ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين: هدفاً "أصيلا" وهدفاً (تبعيّاً).

فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأُطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار... إلاّ أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئاً، فسيكون مضطراً إلى نبذه ليكون حَطباً للحرق والإشعال، فهذا الهدف "تبعيّ" لا أصلي.

والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه، أنّ الإختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختياراً، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.

وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم، إذ كان فريق منهم في الجنّة، وفريق في السعير.

وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه - ووفقاً لصريح آيات القرآن المختلفة - خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل، إلاّ أنّ قسماً منهم إختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خُسراً... وأن قسماً منهم إختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة... ثمّ يلخّص القرآن صفات أهل النّار في ثلاث جمل، إذ تقول الآية: (لهم قلوب لا يفقهون بها)... وقد قلنا مراراً: إنّ التعبير ب- "القلب" في مصطلح القرآن يعني الفكر والروح وقوّة العقل، أي أنّهم بالرّغم ممّا لديهم من استعداد للتفكير، وأنّهم ليسوا كالبهائم فاقدي الشعور والإِدراك، إلاّ أنّهم في الوقت ذاته لا يفكرون في عاقبتهم ولا يستغلون تفكيرهم ليبلغوا السعادة.

والصفة الثّانية التي ذكرتها الآية لأهل النّار (ولهم أعين لا يبصرون بها).

والصفة الثّالثة الواردة في حقهم (ولهم آذان لا يسمعون بها أُولئك كالأنعام بل هم أضل).

لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الإِستعدادات والإِمكانات، إلاّ أنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة، بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب الرقي والتكامل، إلاّ أنّهم نتيجةً لإتباعهم هواهم ورغبتهم - بكل هذه التوافه من الأُمور تركوا هذه الإِستعدادات جانباً... وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب: (أُولئك هم الغافلون).

فالمعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه، إلاّ أنّهم يتصارخون من الظمأ.

وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها.

ويتّضح ممّا ذكرناه أنفاً أنّهم إختاروا بأنفسهم سُبلَ شقائهم وهدروا النعم الكبرى "العقل والعين والأذن..." لا أنّ الله أجبرهم على أن يكونوا من أهل النّار.

لماذا هم كالأنعام؟

لقد شبّه القرآن الكريم الجاهلين الغافلين عديمي الشعور بالأنعام والبهائم مراراً، إلاّ أن تشبيه القرآن هؤلاء بالأنعام لعلّه بسبب إنهماكهم باللذائذ والشهوات الجنسية والنوم فحسب، فهم كالأُمم التي تحلم في الوصول إلى حياة مادية مرفهة تحت شعارات برّاقة تخدع الإِنسان بأنّ آخر هدف للعدالة الإِجتماعية والقوانين البشرية هو الحصول على الخبز والماء... وكما يشبهها الإِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة قائلا: "كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها" (3).

وبتعبير آخر: إنّ جماعة منهم تنعم بالرفاه كالأغنام المربوطة التي تُدجن لتسمن، وجماعة آخرين كالغنم السائمة الباحثة عن العلف والماء في الصحراء، إلاّ أن هدف كل منهما هو ما يشبع البطن ليس إلاّ!.

وهذا الذي ذكرناه أنفاً قد يصدق على شخص معين كما قد يصدق أُمّة كاملة برمّتها، فالأُمم التي لا تفكر بنفسها وتتلّهى بالأُمور التافهة غير الصائبة، ولا تعالج جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي، ليس لها آذان سامعة ولا أعين باصرة، فهي من أهل النّار أيضاً، لا نار القيامة فحسب، بل هي مبتلاة بنار الدنيا وشقائها كذلك.

وفي الآية التّالية إشارة إلى حال أهل الجنّة وبيان لصفاتهم، فتبدأ الآية بدعوة الناس إلى التدبّر والتوجّه إلى أسماء الله الحسنى كمقدمة للخروج من صف أهل النّار، فتقول: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).

والمرد من "أسماء الله الحسنى" هي صفات الله المختلفة التي هي حُسنى جميعاً، فنحن نعرف أنّ الله عالم قادر رازق عادل جواد كريم رحيم، كما أنّ له صفات أُخرى حسنى من هذا القبيل أيضاً.

فالمراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على اللسان فحسب، كأن نقول مثلا: يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين.

بل ينبغي أن نتمثّلَ هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن يشع إشراق من علمه وشعاع من قدرته وجانب من رحمته الواسعة فينا وفي مجتمعنا.

وبتعبير آخر: ينبغي أن نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه، لنستطيع بهذا الشعاع، شعاع العلم والقدرة والرحمة والعدل أن نخرج أنفسنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه من سلك أهل النّار...

ثمّ تحذر الآية من هذا الأمر، وهو أن لا تُحرّف أسماؤه فتقول: (وذروا الذين يُلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).

والإلحاد - في الأصل - مأخوذ من مادة "اللَّحْد" على زنة "المَهْد" التي تعني الحفرة التي تقع في طرف واحد، وعلى هذا الأساس فقد سمّيت الحفرة التي تكون في جانب القبر "لحداً".

ثمّ أُطلق هذا الإِستعمال "الإِلحاد" على كل عمل ينحرف عن الحدّ الوسط نحو الإِفراط أو التفريط، ولذلك فقد سمّي الشرك وعبادة الأوثان إلحاداً أيضاً.

والمقصود من الإِلحاد في أسماء الله هو أن نحرف ألفاظها أو مفاهيمها.

بحيث نصفه بصفات لا تليق بساحته المقدسة، كما يصفه المسيحيون بالتثليث "الله والابن وروح القدس" أو أن نطبّق صفاته على المخلوقين كما فعل ذلك المشركون وعبدة الأوثان إذ اشتقوا لأصنامهم أسماءً من أسماء الله فسمّوها... اللات والعزّى ومناة.

(وغيرها) فهذه الأسماء مشتقّة من الله والعزيز والمنان "على التوالي".

أو أنّهم حرفوا صفاته حتى شبّهوه بالمخلوقات، أو عطلوا صفاته، وما إلى ذلك.

أو أنّهم اكتفوا بذكر الإسم فحسب دون أن يتمثلوه ويعرفوا آثاره في أنفسهم وفي مجتمعاتهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى صفتين من أبرز صفات أهل الجنّة، إذ تقول الآية: (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون).

وفي الواقع، إنّ لأهل الجنّة منهجين ممتازين فأفكارهم وأهدافهم ودعواتهم وثقافاتهم حقّة، وهي في اتجاه الحق أيضاً، كما أنّ أعمالهم وخططهم وحكوماتهم قائمة على أساس الحق والحقيقة.

بحوث

1 - ما هي الأسماء الحسنى؟

في كتب الأحاديث "لأهل السنة والشيعة" أبحاث كثيرة عن أسماء الله الحسنى، نورد خلاصتها في هذا المجال مضافاً إليها ما نعتقده نحن في هذا الصدد.

لا شك أنّ الأسماء الحسنى تعني الأسماء الكريمة، ونحن نعرف أن أسماء الله كلّها تحمل مفاهيم حُسنى، ولذلك فجميع أسمائه أسماءُ حسنى، سواءً كانت صفات لذاته المقدّسة الثبوتية كالعلم والقادر، أم كانت صفات سلبية كالقُدّوس مثلا، أو صفات تحكي فعلا من أفعاله كالخالق أو الغفور أو الرحمان أو الرحيم الخ... ومن ناحية أُخرى، لا شك أنّ صفات الله لا يمكن إحصاؤها، لأنّ كمالاته غير متناهية، ويمكن أن يذكر لكل صفة من صفاته أو كمال من كمالاته اسم... إلاّ أن ما نستفيده من الأحاديث أنّ لبعض صفاته أهمية أكثر من سواها، ولعل "الأسماء الحسنى" الواردة من الآية في الآية محل البحث إشارة إلى هذه الطائفة من الأسماء المتميّزة، إذ ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) من أهل بيته روايات كثيرة بهذا المعنى كالرواية الواردة في كتاب التوحيد "للصّدوق" عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "إنّ لله تبارك وتعالى تسعةً وتسعين إسماً - مئة إلاّ واحدة - من أحصاها دخل الجنّة " (4).

كما ورد في كتاب التوحيد عن الإِمام علي بن موسى الرّضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ لله عزوجل تسعة وتسعين إسماً من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنّة" (5).

وقد جاء في كتب أحاديث (أهل السنَّة) "كما في كتاب صحيح البخاري وصحيح مسلم... والترمذي وكتب أُخرى" هذا المضمون ذاته: إنّ لله تسعة وتسعين إسماً فمن دعاء بها استجاب دعاءَه، ومن أحصاها فهو من أهل الجنّة (6).

ويستفاد من بعض الأحاديث أن هذه الأسماء التسعة والتسعين كلها في القرآن، كالرّواية الواردة عن ابن عباس أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لله تسعة وتسعون إسماً من أحصاها دخل الجنّة، وهي في القرآن" (7).

ولذلك فقد سعى جماعة من العلماء إلى أن يستخرجوا أسماء الله الحسنى من القرآن، إلاّ أن ما جاء في القرآن من أسماء وصفات لله سبحانه تزيد على تسعة وتسعين إسماً، فبناءً على ذلك لعل الأسماء الحسنى من بين تلك الأسماء، لا أنّه لا يوجد في القرآن غير تسعة وتسعين اسماً لله المشار إليها آنفاً (في بعض الأحاديث)... وقد صّرحت بعض هذه الرّوايات بالأسماء الحسنى "التسعة والتسعين"... ونحن نوردها هنا، إلاّ أنّه ينبغي الإِلتفات إلى أن بعض هذه الأسماء الواردة في هذه الرواية لم ترد في القرآن بالصيغة الواردة في الرواية ذاتها وإنّما ورد مضمونها أو مفهومها في القرآن.

فقد جاء في الرّواية المنقولة في كتاب "التوحيد" للصّدوق عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعد أن أشار (عليه السلام) إلى أنّ لله تسعة وتسعين إسماً قال وهي: "الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأول، الآخر، السميع، البصير، القدير، القادر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، الباري، الأكرم، الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي، الرب، الرحمن، الرحيم، الذاريء، الرازق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، السيد، السبّوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الظاهر، العدل، العفو، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيّوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المغيث، المصوّر، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضر، الوتر، النور، الوهّاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البرّ، الباعث، التواب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي" (8)لكن الأهم - هنا - وينبغي ملاحظته والإِلتفات إليه، هو أنّ المراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى هل يعني أن نعدّ هذه الأسماء أو أن نجريها على الألسنة فحسب، بحيث أن من ذكر هذه التسعة والتسعين إسماً دون أن يتمثل محتواها ويفهمها كان من السعداء، أو أنّه ستجاب دعوته.

بل الهدف هو أن يؤمن الإِنسان بهذه الأسماء والصفات، ثمّ يسعى - ما استطاع إلى ذلك سبيلا - لأنّ يعكس في وجوده إشراقاً من مفاهيم تلك الأسماء، أي للعالم، القادر، الرحمان، الرحيم، الغفور، القوي، الغني، الرازق، وأمثالها.

فإنّ كان كذلك كان من أهل الجنّة، وكان دعاؤه مستجاباً ونال كل خير قطعاً.

ويستفاد ضمناً ممّا ذكرناه آنفاً أنّه لو وردت في بعض الرّوايات الأُخرى والأدعية أسماء غير هذه الأسماء لله سبحانه، حتى لو وصلت إلى الألف - مثلا - فلا منافاة بينها وبين ما نقلناه هنا أبداً، لأنّ أسماء الله لا حد لها ولا حصر، وهي - كذاته وكمالاته - لا نهاية لها.

وإن كان لبعض هذه الأسماء أو الصفات ميزات خاصّة.

من ذلك الرواية الواردة في أُصول الكافي عن الإِمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية، إذ يقول: "نحن والله الأسماء الحسنى" (9) فهي إشار إلى أن إشعاعاً من صفاته قد انعكس فينا، فمن عرفنا فقد عرف ذاته المقدسة... أو أنّه لو ورد مثلا في بعض الأحايث أنّ جميع الأسماء الحسنى تتلخص في التوحيد الخالص، فإنّما هو لأن جميع صفاته ترجع إلى ذاته المقدسة.

ويشير الفخر الرازي في تفسيره إلى أمر قابل للملاحظة، وهو أنّ جميع صفات الله تعالى يعود إلى إحدى حقيقتين "إستغناء ذاته عن كل شيء" أو "احتياج الآخرين إلى ذاته المقدسة..." (10).

2 - الأُمّةُ الهُداة!

قرأنا في الآيات محل البحث أنّ طائفة من عباد الله يدعون نحو الحق ويحكمون به (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون).

هناك تعبيرات مختلفة في الرّوايات الواردة في كتب الأحاديث الإِسلامية، في المراد من هذه الأمّة.

ومن جملة هذه الرّوايات ما ورد عن أميرالمؤمنين أنّه قال (عليه السلام).

المراد من الآية هو "أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (11).

ويعني الإِمام بهم أتباع النّبي الصادقين المنزّهين عن كل بدعة وانحراف و تغيير أو حياد من تعاليمه الكريمة... ولهذا فقد ورد في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "والذي نفسي بيده لتَفرقنَ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ فرقة (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون)، وهذه التي تنجو من هذه الأُمّة".

ولعل العدد - 73 - للكثرة، وهو إشارة إلى الطوائف المختلفة التي ظهرت في طول تاريخ الإسلام في عقائد عجيبة غريبة، ولحسن الحظ قد انقرض أغلبها فلم يبق منها إلاّ أسماؤها في كتب "تاريخ العقائد".

وفي حديث آخر ورد في كتب أهل السنة عن الإِمام علي (عليه السلام) ضمن إشارته لإختلاف الأُمم التي تظهر بعدئذ في الأُمّة الإِسلامية، أن قال (عليه السلام) "الفرقة الناجية أنا وشيعتي وأتباع مذهبي" (12).

وجاء في بعض الرّوايات الأُخرى أنّ المراد من قول تعالى: (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحق)، هم الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) " (13).

وواضح أنّ الرّوايات المذكورة أنفاً كلّها تعالج حقيقةً واحدة، وهي بيان للمصاديق المختلفة لهذه الحقيقة، وهي أن الآية تشير إلى أُمّة تدعو إلى الحق وتعمل بالحق وتحكم به، وتسير في مسير الإِسلام الصحيح.

غاية ما في الأمر أنّ بعضهم في قمة هذه الأُمّة ورأسها وبعضهم في مراحل أُخر... وممّا يسترعي النظر أنّ هؤلاء الذين عبّرت عنهم الآية بقولها (وممن خلقنا أُمّة يهدون) على اختلاف لغاتهم وقوميّاتهم ومراحلهم العلمية وأمثالها، هم أُمّة واحدة لا غير، ولذلك فإنّ القرآن قال عنهم: (أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون) ولم يعبر عنهم ب- "أُمم يهدون إلخ...".

3 - اسم الله الأعظم

جاء في بعض الرّوايات عن قصة بلعم بن باعورا الذي ورد ذكره - آنفاً - أنّه كان يعرف الإسم الأعظم، ولا بأس أن نشير إلى هذا الموضوع لمناسبة وُرود الأسماء الحُسنَى في الآيات محل البحث... فقد وردت روايات مختلفة في شأن الإِسم الأعظم، ويستفاد منها أن من يعرف الإِسم الأعظم لا يكون مستجاب الدعاء فحسب، بل تكون له القدرة على أن يتصرف في عالم الطبيعة وأن يقوم بأعمال مهمّة... والإسم الأعظم، أيُّ اسم هو من أسماء الله؟!

بحث علماء الإسلام كثيراً في هذا الشأن، وأغلب أبحاثهم تدور في أن يعثروا على اسم من بين أسماء الله له هذه الخصوصيّة العجيبة والأثر الكبير.

إلاّ أن الأهم في البحث أن نعثر على اسم أو صفة من صفاته تعالى بتطبيقها على وجودنا نحصل على تكامل روحي تترتب عليه تلك الآثار.

وبتعبير آخر: إنّ المسألة المهمّة هي التخلق بصفات الله والإِتصاف بها ووجودها في الإِنسان، وإلاّ كيف يمكن أن يكون الشخص الرديء الوضيع مستجاب الدعوة بمجرّد معرفته الإِسم الأعظم؟!

وإذا ما سمعنا أنّ بلعمَ بن باعوراء كان لديه هذا الإِسم الأعظم إلاّ أنّه فقده، فمفهوم هذا الكلام أنّه كان قد بلغ - بسبب بناء شخصيته وإيمانه وعلمه وتقواه - إلى مثل هذه المرحلة من التكامل المعنوي، بحيث كان مستجاب الدعوة عند الله، إلاّ أنّه سقط أخيراً في الوحل، فقد تلك الروحية بسبب اتباعه لهوى النفس وإنقياده لفراعنة زمانه، ولعل المراد من نسيان الإِسم الأعظم هو هذه الحالة أو هذا المعنى.

كما أنّنا لو قرأنا - أيضاً - أن الأنبياء والأئمّة الكرام كانوا يعرفون الإِسم الأعظم، فمهفوم هذا الكلام هو أنّهم جسّدوا اسم الله الأعظم في وجودهم، واستضاءوا بشعاعه، فأولاهم الله - بهذه الحال - مثل هذا المقامِ العظيمِ.


1- الكهف، 45.

2- سورة الذاريات: 56.

3- نهج البلاغة، من كتاب له و 24 رقم 45.

4- تفسير الميزان، ومجمع البيان، ونور الثقلين، ذيل الآية.

5- تفسير الميزان، ومجمع البيان، ونور الثقلين.

6- المصدر السابق.

7- المصدر السابق.

8- الميزان، ج8، ص 376، نقلا عن التوحيد للصدوق.

9- نور الثقلين، ج2، ص 103.

10- تفسير الفخر الرازي، ج 15، ص 66.

11- نورالثقلين، ج2، ص 105.

12- تفسير البرهان، ج2، ص 53.

13- نور الثقلين، ج2، ص 104 - 105.