الآيات 175 - 178
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـهُ ءَايَـتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَيهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176 سَآءَ مَثَلا الْقَومُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ177 مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ178﴾
التّفسير
في هذه الآيات إشارة لقصّة أُخرى من قصص بني إسرائيل، وهي تعد مثلا وأنموذجاً لجميع أُولئك الذين يتصفون بمثل هذه الصفات.
وكما سنلاحظ خلال تفسير الآيات - محل البحث - فإنّ للمفسّرين احتمالات متعددة في الذي تتحدث عنه أو (عليه) الآيات... إلاّ أنّه ممّا لا ريب فيه أن مفهوم الآيات - كسائر الآيات النازلة في ظروف خاصّة - عامٌ وشامل.
والآية الأُولى من هذه الآيات يُخاطَبُ بها النّبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول القرآن الكريم (واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
فهذه الآية واضحة أنّها تحكي قصّة رجل كان في البداية في صف المؤمنين، وحاملا للعلوم الإِلهية والآيات، إلاّ أنّه إنحرف عن هذا النهج، فوسوس له الشيطان، فكانت عاقبة أمره أن انجرّ إلى الضلال والشقاء!... والتعبير ب- "إنسلخ" وهو من مادة "الإنسلاخ" معناه في الأصل الخروج من الجلد... يدلّ على أن الآيات والعلوم الإِلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن، إلاّ أنّه خرج منها على حين غرّة واستدار إلى الوراء وغيّر مسيره بسرعة!
كما أنّ التعبير القرآني "فأتبعه الشيطان" يستفاد منه أنّ الشيطان كان أوّل الأمر آيساً منه تقريباً، لأنّه كان يسلك سبيل الحق تماماً، وبعد أن انحرف لحقه الشيطان وتربص له وأخذ يوسوس له حتى انتهى أمره إلى أن يكون من الضالين المنحرفين الأشقياء (1).
والآية التّالية تكمل هذا الموضوع على النحو التّالي (ولو شئنا لرفعناه بها).
إلاّ أن من المسلّم أنّ إكراه الناس وإجبارهم على أن يسلكوا سبيل الحق لا ينسجم والسنن الإلهية وحرية الإِدارة، ولا يكون ذلك دليلا على عظمة الشخص، لهذا فإنّ الآية تضيف مباشرة.
إنّنا تركناه وهواه، وبدلا من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ (ولكنّه أخلد إلى الأرض واتبع هواه).
وكلمة (أخلد) من (الإِخلاد) وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع حرية الإِرادة، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.
ثمّ تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يُخرج لسانه لاهثاً دائماً كالحيوانات العطاشى فتقول (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).
فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من التعطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا، وكل ذلك لم يكن لحاجة، بل لحالة مرضيّة، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن إرواؤها وهي حالة عبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبداً.
ثمّ تضيف الآية: إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين، بل: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون).
العالِم المنحرف "بلعم بن باعوراء":
كما لاحظنا أنّ الآيات السالِفة لم تذكر اسم أحد بعينه، بل تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداءً وبشكل لا يفكر معه أحد بأنّه سينحرف يوماً، إلاّ أنّه نتيجةً لإتّباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالين وأتباع الشياطين.
غير أنّنا نستفيد من أغلب الرّوايات وأحاديث المفسّرين أن هذا الشخص يسمّى (بعلم بن باعوراء) الذي عاصر النّبي موسى (عليه السلام) وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل، حتى أن موسى (عليه السلام) كان يعوّل عليه على أنّه داعية مقتدر، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجاباً لدى الباري جل وعلا، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة أعداء موسى (عليه السلام) (2).
إلاّ أننا نستبعد ما يحتمله بعضهم من أن المقصود هو (أمية بن الصلت) الشاعر المعروف في زمان الجاهلية، الذي كان باديء أمره ونتيجة لإطلاعه على الكتب السماوية ينتظر نبي آخر الزمان، ثمّ حصل له هاجس أن النّبي قد يكون هو نفسه، ولذلك بعد أن بُعث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصابه الحسد له وعاداه.
وبعيد كذلك ما إحتمله بعضهم من أنّه كان (أبا عامر) الراهب المعروف في الجاهلية، الذي كان يبشر الناس بظهور رسول الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه بعد ظهوره صار من أعدائه.
لأنّ جملة (واتل) وكلمة (نبأ) وجملة (فاقصص القصص) تدل على أنّ تلك الأُمور لا تتعلق بأشخاص عاصروا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
بل بأقوام سابقين، مضافاً إلى تلك فإنّ سورة الأعراف من السور المكية وقضيتا أبي عامر الراهب وأمية بن الصلت تتعلقان بحواث المدينة.
ولكن بما أن أشخاصاً على غرار "بلعم" كانوا موجودين في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ك- (أبي عامر) و (أمية بن الصلت) فإنّ الآيات محل البحث تنطبق على هذه الموارد في كل عصر وزمان، وإلاّ فإنّ مورد القصّة هو "بلعم بن باعوراء" لاغير.
وقد نقل تفسير (المنار) عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كأُمية بن أبي الصلت في هذه الأُمّة.
وورد عن الإِمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "الأصل من ذلك بلعم، ثمّ ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هوى الله من أهل القبلة".
ومن هذا يتبيّن أن الخطر الاكيد الذي يهدد المجتمعات الإِنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم وميولهم الدنيوية (والإِخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لإِستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامّة الناس.
ولا يختص الأمر بزمن النّبي موسى (عليه السلام) أو غيره من الأنبياء، بل حتى بعد عصرالنّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الإِجتماعي من أجل الدرهم والدينار، أو المقام، أو لأجل الحسد، تحت إختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت.
ويمكن معرفة أُولئك العلماء من خلال أوصاف أشارت إليها الآيات محل البحث، فإنّهم ممن نسي ربّه واتبع هواه، وهم ذوو نزوات سخروها للرذيلة بدل التوجه نحو الله وخدمة خلقه، وبسبب هذا التسافل فقدوا كل شيء ووقعوا تحت سلطة الشيطان ووساوسِه، فسهل بيعهم وشراؤهم، وهم كالكلاب المسعورة التي لا ترتوي أبداً، ولهذه الأُمور ترك هؤلاء سبيل الحقيقة وضلوا عن الطريق حتى غدوا أئمّة الضلال.
ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم وإجتنابهم.
والآيتان التاليتان - كنتيجة عامّة وشاملة لقضية - (بلعم) والعلماء الدنيويين فتقول أُولاهما (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون).
فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير - ويضعها تحت إختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع والآية الاخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أن الخلاص من مثل هذا الإِنحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلاّ بتوفيق وتسديد من الله عزوجل (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأُولئك هم الخاسرون).
وتقدم كرّات بأنّ (الهداية) و (الإِضلال) الإِلهيين لا يعدان إجباراً ولا بدون حساب أو دليل، ويقصد بهما إعداد الأرضية للهداية وفتح سبلها أو إيصادها، وذلك بسبب الأعمال الصالحة أو الطالِحة التي صدرت من الإِنسان من قبْل، وعلى أية حال فالتصميم النهائي بيد الإِنسان نفسه...
فبناءً على هذا فإنّ الآية محل البحث تنسجم مع الآيات المتقدمة التي تذهب إلى أصل حرية الإِرادة... ولا منافاة بين هذه الآية وتلكم الآيات بتاتاً...
1- تبع واتبع بمعنى لحق أو أدرك.
2- في التوراة الحالية نجد ورود قضية "بلعم بن باعوراء" أيضاً، إلاّ أنّ التوراة تبرئه في النهاية من الإِنحراف، يراجع بذلك سفر الأعداد الباب 22.