الآيتان 169 - 170

﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الاَْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِّيثَقُ الْكِتَـبِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ169 وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أجْرَ الْمُصْلِحِينَ 170﴾

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و"خَلْف" على وزن "حَرْف" يأتي غالباً في الأولاد غيرالصالحين - كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، في حين أنّ "الخَلَف" على وزن "شَرَف" يأتي بمعنى الولد الصالح (1).

ثمّ يضيف قائلا: وعندما وقعوا بين مفترق طريقين: بين ضغط الوجدان من جهة، والرغبات والمنافع المادية من جهة أُخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا: لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواءً من حلال أو حرام، والله سيرحمنا ويغفر لنا (ويقولون سيُغفَر لنا).

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية، ولكن هذه الندامة - كما يقول القرآن الكريم - لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم، ولهذا يقول تعالى: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه).

و"عرض" على وزن "غرض" يعني الشيء الذي لا ثبات له ولا دوام، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب، فهو يقصد الإِنسان يوماً ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإِنسان حسابه ولا يعود قادراً على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره، يوماً آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلاّ الحسرة والتذكر المؤلم، هذا مضافاً إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساساً غير دائمة، وغير ثابته (2).

وعلى كل حال، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الإِرتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق) أي أنّهم أُخذ عليهم الميثاق - بواسطة كتابهم السماوي التوراة - أن لا يفتروا على الله كذباً، ولا يحرفوا كلماته، ولا يقولوا إلاّ الحق.

ثمّ يقول: لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإِلهية، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذاراً، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مراراً وفَهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم (ودرسوا فيه).

و"الدرس" في اللغة يعني تكرار شيء، وحيث أن الإِنسان عند المطالعة، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع، لهذا أطلق عليه لفظ "الدرس" وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة "درس والاندراس" على إنمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأُخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول: إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأُمور، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعاً (والدّار الآخرة خير للذين يتفون).

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة (أفلا تعقلون) ؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقاً يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإِلهية وكتمانها فحسب، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفاً بحرف، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم، ويقول عنهم: (والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين).

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من "الكتاب" وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟

بعض ذهب إلى الأوّل، وبعض إلى الثّاني.

والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم.

ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر بظهور نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ينفصل عن الإِيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير ب- "يمسّكون" الذي هو بمعنى الإِعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والإلتصاق بشيء لحفظه وصيانته، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإِنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإِلهي ليس هو أن يمسك الإِنسان بيده أوراقاً من القرآن أو التوراة أو الإِنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإِلهية، وهذا التعبير يؤكّد - مرّة أُخرى - هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة، وبدار الآخرة، بل هو برنامج للحياة البشرية، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر، وإجراء مبادىء العدل والسلام والرفاه والإستقرار، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة "الإِصلاح" الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص "الصلاة" من بين الأوامر والتعاليم الإِلهية، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإِنسان بالله الذي يراه حاضراً وناظراً لجميع أعماله وبرامجه، ومراقباً لجميع أفعاله وأقواله، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أُخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإرتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإِنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

من كل ما قيل يتّضح أنّ هذا المبدأ والمرتكز الفكري لا يختص باليهود، بل هو أصل في حياة الأُمم والشعوب.

وعلى هذا الأساس فإنّ الذين يجمعون متاعاً زائلا بواسطة كتمان الحقائق وتحريفها، ثمّ يرون نتائجه المشؤومة يتّخذون لأنفسهم حالة من التوبة الكاذبة، توبة سرعان ما تزول وتذوب أمام إبتسامة من منفعة مادية متجدّدة، كما يذوب الثلج في حرّ القيظ فهؤلاء هم المخالفون لإصلاح المجتمعات البشرية، وهم الذين يضحون بمصالح الجماعة في سبيل مصالح الفرد، سواء صدر هذا الفعل من يهوديّ أو مسيحي أو مسلم.


1- مجمع البيان، وتفسير ابن الفتوح الرازي، في ذيل الآية الحاضرة.

2- يجب الإنتباه، إلى أن "عَرَض" على وزن "غَرض" يختلف عن "عرْض" على وزن (فرض) فالأوّل بمعنى كل رأس مال دنيوي، والثّاني بمعنى المال النقدي.