الآيتان 159 - 160

﴿وَمِن قَومِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ159 وَقَطَّعْنَـهُمٌ اثْنَتىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُممَاً وَأَوْحَيْنَآ إِلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَـهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةً عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَـمَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيّبـتِ مَا رَزَقْنَـكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160﴾

التّفسير

جانب من نعم الله على بني إسرائيل:

في الآيات الحاضرة إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق، واحترامه لمكانة الأقليات الدينية الصالحة، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإِفساد، وبأنّ هذا العرق القومي برمته ضالّ متمرد من دون إستثناء، بل اعترف بأن منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية، وقد أولى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً بهؤلاء فيقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون).

إنَّ هذه الآية قد تشير إلى فريق صغير لم يسلّموا للسامريّ ودعوته، وكانوا يدافعون عن دين موسى دائماً وأبداً، أو إلى الفرق والطوائف الصالحة الأُخرى التي جاءت بعد موسى (عليه السلام).

ولكن هذا المعنى يبدو غير منسجم مع ظاهر الآية، لأن "يهدون" و"يعدلون" قعل مضارع، وهو على الأقل يحكي عن زمان الحال، يعني عصر نزول القرآن، ويثبت وجود مثل هذا الفريق في ذلك الزمان، إلاّ أن نقدّر فعل "كان" فتكون الآية إشارة إلى الزمان الماضي، ونعلم أن التقدير من دون قرينة خلاف الظاهر.

وكذلك يمكن أن يكون ناظراً إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين اعتنقوا الإسلام تدريجاً وبعد مطالعة دعوة النّبي ومحتوى رسالته، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين.

وهذا التّفسير ينسجم أكثر مع ظاهر الفعلين المضارعين المستعملين فيها.

وما جاء في بعض روايات الشيعة والسنة من أنّ هذه الآية إشارة إلى فريق صغير من بني إسرائيل يعيشون فيما وراء الصين، عيشة عدل وتقوى وتوحيد وعبودية الله تعالى فغير مقبول، لأنّه مضافاً إلى عدم موافقته لما نعلمه من جغرافيا العالم اليوم، ومضافاً إلى أن التواريخ الحاضرة الموجودة لا تؤيد هذا الموضوع، فإنّ الأحاديث المذكورة غير معتبرة من حيث السند، ولا يمكن أن يُعتمد عليها كأحاديث صحيحة حسب قواعد علم الرجال.

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى عدّة أقسام من نعم الله على بني إسرائيل.

فيقول أوّلا: (وقطعناهم إثنتى عشرة أسباطاً أُمماً) وهذا التقطيع والتقسيم إنّما هو لأجل أن يسودهم نظام عادل، بعيد عن المصادمات الخشنة.

وواضح أنّه عندما يكون في شعب من الشعوب تقسيمات إدارية صحيحة ومنظمة، ويخضع كل قسم من تلك الأقسام لقيادة قائد قدير، فإنّ إدارتهم ورعاية العدالة بينهم تكون أسهل، ولنفس هذا السبب عمدت جميع الدول إلى مثل هذا العمل وأخذت بهذه القاعدة.

و"أسباط" جمع سبط (بفتح السين وبكسرها) تعني في الأصل الإِنبساط في سهولة، ثمّ يطلق السبط والأسباط على الأولاد وبخاصّة الأحفاد لأنّهم امتداد العائلة.

والمراد من الأسباط - هنا - هو قبائل بني إسرائيل وفروعها، الذين كان كل واحد منها منشعباً ومنحدراً من أحد أولاد يعقوب (عليه السلام).

والنّعمة الأُخرى هي: أنّه عندما كان بنو إسرائيل متوجهين إلى بيت المقدس وأصابهم العطش الشديد الخطير في الصحراء، وطلبوا من موسى (عليه السلام) الماء، أوحي إليه أن اضرب بعصاك الحجر... ففعل فنبع الماء فشربوا ونجوا من الهلاك (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاء قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا).

وقد كانت الينابيع هذه مقسمة بين أسباط بني إسرائيل بحيث عرف كل سبط منهم نبعه الذي يشرب منه (قد علم كل أناس مشربهم).

ويستفاد من هذه الجملة أنّ هذه الينابيع الإِثنى عشر التي نبعت من تلك الصخرة العظيمة كانت معلّمة بعلامات ومتميز بعضها عن بعض بفوارق، بحيث كان يعرف كل فريق من فرق بني إسرائيل نبعه المختص به والمقرّر له، لا يقع بينهم أي خلاف ويسود النظم والإِنضباط في جماعتهم، ويتمّ الشرب بصورة أسهل وأفضل.

والنّعمة الثالثة هي: أن الله تعالى أرسل لهم - في تلك الصحارى الملتهبة حيث لا سقف ولا ظلال - سحباً ظلّلتهم (وظلّلنا عليهم الغمام).

والنّعمة الرّابعة إنزال المنّ والسلوى عليهم كغذائين لذيذين ومقويين(وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى).

ثمّ إنّ المفسّرين أعطوا تفسيرات متنوعة لهذين الغذاءين "المنّ" و"السلوى" اللذين أنزلهما الله على بني إسرائيل في تلك الصحراء القاحلة (وقد ذكرنا هذه التفاسير عند دراسة الآية 57 من سورة البقرة) وقلنا بأنّه لا يبعد أنّ "المن" كان نوعاً من العسل الطبيعي الذي كان في بطون الجبال المجاورة، أو عصارات وإفرازات نَباتية كانت تظهر على أشجار كانت نابتة هنا وهناك في تلك الصحراء، و"السلوى" نوع من الطير الحلال اللحم شبيه بالحمام.

ثمّ يقول الله تعالى: وقلنا (كلوا من طيبات ما رزقناكم).

ولكنّهم أكلوا وكفروا النعمة ولم يشكروها وبذلك ظلموا في الحقيقة أنفسهم (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

ويجب الإِنتباه إلى أن مضمون هذه الآية جاء في الآيات (57) و (60) من سورة البقرة مع فارق بسيط، غاية ما في الأمر أنّه عبر عن نبوع الماء من الصخر هنا ب- "انبجست" وهناك ب- "انفجرت"، وحسب اعتقاد جماعة من المفسّرين أنّ التفاوت بين هاتين العبارتين هو أن "انفجرت" تعني "خروج الماء بدفع، وكثرة" و"انبجست" تعني "خروج الماء بقلّة" ولعل هذا التفاوت لأجل الإشارة إلى أنّ عيون الماء المذكورة لم تنبع من الصخرة العظيمة دفعة حتى يصير ذلك سبباً لإستيحاشهم وخوفهم وقلقهم، ولا تكون لهم قدرة على تنظيم المياه المندفقة وحصرها، بل خرجت ابتداءً بهدوء وقلة، ثمّ توسعت المجاري وكثرت المياه النابعة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى مفهوم واحد.