الآيتان 155 - 156
﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِّمِيقَـتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـفِرينَ155وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الاَْخِرَةِ إنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُم بِأيَـتِنَا يُؤْمِنُونَ 156﴾
التّفسير
مندوبو بني إسرائيل في الميقات:
في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات "الطور" في صحبة جماعة، ويقص قسماً آخر من تلك الحادثة.
هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسى (عليه السلام) ميقات واحد مع ربّه، أو أكثر من ميقات واحد؟
وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإِثبات مقصوده من القرآن الكريم، ولكنّه كما قلنا سابقاً - في ذيل الآية (142) من هذه السورة - أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسى (عليه السلام) كان له ميقات واحد، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.
وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمه (عليه السلام)، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسى (عليه السلام) أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة.
في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغُشي على موسى (عليه السلام) وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشياً عليهم، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.
إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث - في بادىء النظر - إشكالا، وهو: كيف أشارالله تعالى أولا إلى ميقات موسى (عليه السلام) ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل، ثمّ عاد مرّة أُخرى إلى مسألة الميقات؟
هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟
ولكن مع الإِلتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتاً، ويعمد إلى بحث ضروري آخر، ثمّ يعود مرّة أُخرى لنفس الحادثة الأُولى.
بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل، ونقول: إنّ موسى (عليه السلام) ذهب مرّة أُخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للإِعتذار إلى الله والتوبة، كما قال بعض المفسّرين، لأنّ هذا الإِحتمال بغض النظر عن جهات أُخرى يبدو بعيداً في النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للإِعتذار والتوبة، فهل من الممكن أن يُهلِكَ الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للإِعتذار إلى الله بالنيابه عن قومهم؟!
وعلى كل حال، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا).
ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه - لبني إسرائيل - جهرة، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة، ووقع موسى (عليه السلام) على الأرض مغشياً عليه، وعندما أفاق قال: ربّاه لو شئتَ لأهلكتَنا جميعاً، يعني بماذا أجيبُ قومي لو هلك هؤلاء (فلمّا أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي).
ثمّ قال: ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء، فلا تؤاخذنا بفعلهم: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا) ؟
ولقد اعتبر بعض المفسّرين - وجود كلمة "الرجفة" في هذه الآية، وكلمة "الصاعقة" في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرةً - دليلا على التفاوت بين الميقاتين.
ولكن - كما قلنا سابقاً - إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).
وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة (بِما فعل السفهاء منا) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.
والجواب على هذا الكلام واضحٌ أيضاً، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضاً، وإطلاق "الفعل" على "الكلام" ليس أمراً جديداً وغير متعارف، مثلا عندما نقول: إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا، فإنّ من المسلّم أنَّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضاً.
ثمّ إنّ موسى (عليه السلام) قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله: ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحِقاً لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقاً لذلك) (إن هي إلاّ فتنتك) وإختبارك.
وهنا أيضاً تكلّم المفسّرون في معنى "الفتنة" كثيراً وذهبوا مذاهب شتى، ولكن بالنظر إلى أن لفظة "الفتنة" جاءت في القرآن الكريم بمعنى الإِختبار والإِمتحان مراراً كما في الآية (28) من سورة الأنفال: (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة) وكذا في الآية (رقم 2) من سورة العنكبوت، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضاً.
لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختباراً شديداً، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.
وفي ختام الآية يقول موسى (عليه السلام) : رباه: (أنت وليُّنا فاغفر لنا وارْحمنا وأنت خير الغافرين).
من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسى (عليه السلام) إلى بني إسرائيل، وقصُّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.
وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسى (عليه السلام) من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة، يقول موسى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة).
و"الحسنة" تعني كلَ خير وجمال، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم، وكذا التوفيق للعمل الصالح، والمغفرة، والجنّة، وكل نوع من أنواع السعادة، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.
ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا: (إنا هُدنا إليك) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.
و"هدنا" مشتقة من مادة "هَوْد" بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء، وكما قال بعض اللغويين: تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضاً، وكذا من الشر إلى الخير (1)، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.
يقول الراغب في "المفردات" نقلا عن بعض: "يهود في الأصل من قولهم: هُدنا إليك، وكان اسم مدح، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم، وإن لم يكن فيه معنى المدح".
ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير، أو من الخير إلى الشر، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.
وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم ب- "اليهود" لا يرتبط مطلقاً بهذه اللفظة، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة "يهوذا" الذي هو إسم لأحد أبناء يعقوب (عليه السلام) ثمّ تبدلت الذال إلى الدال، وصارت يهودا، فيطلق على المنسوب إليه يهودي (2).
ولقد أجاب الله - في النهاية - دعاء موسى (عليه السلام) وقَبِلَ توبته، ولكن لا بصورة مطلقة، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطاً بشروط، أذ يقول: (قال عذابي أصيب به من أشاء) وكان مستحِقاً.
وقد قلنا مراراً: إنّ "المشيئة" في هذه الموارد، بل في جميع الموارد، ليس بمعنى الإِرادة المطلقة ومن غير قيد أو شرط، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والصلاحيات واللياقات، وبهذا يتّضح الجواب على كل إشكال في هذا الصعيد.
ثمّ يضيف تعالى قائلا (ورحمتي وسعت كل شيء).
إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى النعم والمواهب الدنيوية التي تشمل الجميع ويستفيد منها الكل، براً وفاجراً، صالحاً وطالحاً.
كما يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية، لأنّ النعم المعنوية لا تختَص بقوم دون قوم، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.
وبعبارة أُخرى: إن أبواب الرحمة الإِلهية مفتوحة للجميع، وإنّ الناس هم الذين عليهم أن يقرروا دخول هذه الأبواب فلو لم تتوفر شرائط الورود في بعض الناس فإنّ ذلك دليل على تقصيرهم هم، لا محدودية الرحمة الإلهية (والتّفسير الثّاني أنسب مع مفهوم الآية والجملة التي ستأتي).
ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة، أو سعة الرحمة الإِلهية وشموليتها، غير مقيدة وغير مشروطة، ومن دون حساب أو كتاب، يضيف في ختام الآية: سرعان ما أكتب رحمتي للّذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور: اتقوا، وآتوا الزكاة، وآمنوا بآياتي (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون).
و"التقوى" إشارة إلى إجتناب كل معصية وإثم.
و"الزكاة" مرادة هنا بمعناها الواسع، وحسب الحديث المعروف "لكل شيء زكاة" يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.
وجملة (والذين هم بآياتنا يؤمنون) تشمل الإِيمان بالمقدسات.
وبهذه الطريقة تتضمّن الآية برنامجاً كاملا وجامعاً.
وإذا فسرنا الزكاة بمعنى خاص (أي المعنى المتعارف والمصطلح للزكاة) كان ذكرها من بين سائر الوظائف الإِلهية، لأجل أهميتها في صعيد العدالة الإجتماعية.
وقد روي في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللّهم ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً، فلمّا سلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للأَعرابي: لقد تَحَجرْتَ واسعاً،أي جعلت شيئاً واسعاً، أمراً ضيقاً محدوداً فالرحمة الإلهية لا تنحصر في أحد من الناس (3).
1- تفسير المنار، المجلد التاسع، الصفحة 221، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.
2- تفسير أبوالفتوح، المجلد الخامس، الصفحة 300، في تفسير الآية الحاضرة.
3- مجمع البيان في تفسير هذه الآية.