الآيات 152 - 154
﴿إِنَّ الَّذيِنَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَـوةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ 152 وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمُّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 153 وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاَْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 154﴾
التّفسير
لقد فعلت ردة فعل موسى (عليه السلام) الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عَبَدة العجل الإسرائيليون - وهم أكثرية القوم - على فعلهم، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضاً (الآية 149) ومن أجل أن لا يُتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة، يضيف القرآن الكريم قائلا: (إنّ الذين اتّخذوا العجل سينالهم عضبٌ من ربّهم وذلّة في الحياة الدنيا).
وهكذا لأجل أن لا يُتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا: (وكذلك نجزي المفترين).
إن التعبير ب- "اتّخذوا" إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية، ولكن انتخاب عَبَدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية، ولهذا أتى بكلمة "العجل" وراء هذه الجملة فوراً، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.
أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟
وهذه الذّلة ما هي؟
فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الارض المقدسة.
أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضاً العجيبة التي كُلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.
وهنا قد يطرح هذا السؤال، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟
والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع.
صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة، ولكنّها ليست كل شيء.
إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأُم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة، وكفاية يقول مرتكبها: "أستغفر الله" وينتهي كلُّ شيء.
بل لابدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أُخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.
وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام: (والذين عملوا السيئات ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إن ربّك من بعدها لغفور رحيم) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
جواب على سؤالين:
1 - هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لِرسول الله والمسلمين؟
أو أنّه خطاب الله لموسى (عليه السلام) بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟
ذهب بعض المفسّرين إلى الإحتمال الأوّل، وارتضى بعضٌ آخر الإحتمال الثّاني.
والذين ارتضوا الإحتمال الأوّل استدلوا بجملة (إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
والذين ارتضوا الإِحتمال الثّاني استدلوا بجملة (سينالهم غضب) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.
ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسى (عليه السلام) في تعقيب قصّة العجل، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع، وليس هناك مايمنع أن يكون "إنّ ربّك" خطاب موجه إلى موسى (عليه السلام) (1).
2 - لماذا جاء الإِيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإِيمان تتزلزل عند إرتكاب المعصية، ويصيبها نوع من الوهن، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإِسلامية:
"لا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يزني وهو مؤمن" أي أن الإِيمان يتضاءل ضوؤه، ويفقد أثره.
ولكن عندما تتحقق التوبة يعود الإِيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل، وكأنّ الإِيمان تجدّد مرّة أُخرى.
ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت - فقط - على الذلة في الحياة الدنيا، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة، وإن بقيت أعباء الذنوب الأُخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.
الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول: ولما سكن غضب موسى (عليه السلام)، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها، أخذ الألواح من الأرض، تلك الألواح التي كانت تحتوي - من أوّلها إلى آخرها - على الرحمة والهداية، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية، والذين يخافون الله، ويَخضعون لأوامره وتعاليمه (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدىً ورحمة للذين هم لربّهم يرهبون).
1- فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا: "قال الله لموسى أن الذين ....".