الآيتان 132 - 133

﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَة لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنينَ132 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَـت مُّفَصَّلَـت فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ133﴾

التّفسير

النّوائب المتنوعة:

في هاتين الآيتين أُشير إلى مرحلة أُخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون، فعندما لم تنفع المرحلة الأُولى، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمِرة، ولكنّهم - وللأسف - لم ينتبهوا مع ذلك.

وفي الآية الأُولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب: إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى، وقالوا: مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك: (وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين).

إنّ التعبير ب- "الآية" لعلّه من باب الإِستهزاء والسخرية، لأنّ موسى (عليه السلام) وصف معاجزه بأنّها آيات الله، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.

إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان - تبعاً لذلك العصر - أقوى جهاز إعلامي، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الإِستخدام... إنّ هذا الجهاز الإِعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان، وجعلها شعاراً عاماً ضد موسى (عليه السلام)، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسى (عليه السلام) للحيلولة دون إنتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.

ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أُمّة أو قوماً من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة: نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون... فقال أولا: (فأرسلنا عليهم الطوفان).

وكلمة "الطوفان" مشتقّة من مادة "الطوف" على وزن "خَوف" وتعني الشيء الذي يطوف ويدور، ثمّ أُطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإِنسان، ولكنّها أطلقت - في اللغة - على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب، وبالتالي تدمر البيوت،وتقتلع الأشجار من جذورها.

ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).

وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيماً جدّاً إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضماً وإتلافاً، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.

وكلّما كان يُصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى (عليه السلام) ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضاً، وقبل موسى (عليه السلام)، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.

وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل (والقمل).

وأمّا ما هو المراد من "القمل" فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات، وتفسدها وتتلفها.

وعندما خفت أمواج هذا البلاء، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة، الضفادع، فقد تزايد نسل الضفادع تزايداً شديداً حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم: (والضفادع) (1).

ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق، ولم يسلّموا.

وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم (الدّم).

قال البعض: إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام، وأُصيب الجميع بذلك.

ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم، بحيث صار تعافه الطباع، ولم يعد قابلا للإِنتفاع.

وقال تعالى في ختام ذلك: إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة - رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى - ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين.

(آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).

وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة، والجراد في سنة أُخرى، والآفات الزراعية في سنة ثالثة، وهكذا.

ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال، لاشك أنّها كانت تقع بصورة منفصلة، وفي فواصل زمينة مختلفة (كمايقول القرآن: مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.

هذا والجدير بالإِنتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك، ولا شك أنّ هذا نوع من الإِعجاز، ولكن يمكن أن نبرر قسماً من ذلك بتبرير علمي معقول، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه، وكانت هذه الشواطيء والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم، فقصورهم الجميلة الشامخة، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة، كانت في هذه الضفاف.

وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيداً للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.

ومن الطبيعي أنّ الطوفان عندما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها، وكذا عندما كانت الضفادع تخرج من الماء، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأُولى.

كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضاً، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة).


1- الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد. ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعاً مختلفة من الضفادع.