الآيات 103 - 108
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِأيَـتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 103 وَقَالَ مُوسَى يَـفِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ104 حَقِيقٌ عَلى أَن لاَّ أَقُولَ عَلى اللهِ إِلاّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيَّنَة مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَئيلَ 105 قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأَيَة فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ 106 فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ107 وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ 108﴾
التّفسير
المواجهة بين موسى وفرعون:
بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.
وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من غيرهم في بيئة نزول القرآن، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب. (1)
وثانياً: لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.
وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أُخرى منها أيضاً في سور أُخرى، مثل: سورة البقرة، طه، الشعراء، النمل، القصص، وسور أُخرى، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة، ثمّ وضعناها جنباً إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به.
وحيث أنّ مصر كانت أوسع، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدماً من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني - بنفس النسبة - أكثر وأكبر، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر، وحوى عبراً ونكات أكثر، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.
وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإِلهي العظيم في خمس دورات ومراحل:
ا - مرحلة الولادة، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.
2 - مرحلة فراره من مصر، وحياته في أرض "مدين" في كنف النّبي شعيب (عليه السلام).
3 - مرحلة بعثته، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.
4 - مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون، والحوادث التي
جرت عليه في الطريق، وعند وروده إلى بيت المقدس.
5 - مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.
ويجب الإنتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسماً - أو عدّة أقسام - من هذه المراحل الخمس.
ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسى (عليه السلام) هذه الآيات، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة، وهي تشير إلى مراحل مابعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة.
ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأُخرى، وبخاصّة سورة القصص.
في الآية الأُولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى: (ثمّ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.
ويجب الإلتفات إلى أنّ "فرعون" اسم عام، وهو يطلق على كل ملوك مصر، كما يطلق على ملوك الروم "قيصر" وملوك فارس "كسرى".
ولفظة "الملأ" - كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق - تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.
والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني اسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر - وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون - إنّما هو لأجل أن المفاسد الإجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإِصلاحات الفردية والموضعية فقط، بل يجب أن يُبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة، حتى تتهيأ الأرضية لإِصلاح البقية، كما يقال عرفاً: إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.
وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين، لإِصلاح المجتمعات الإسلامية.
ثمّ يقول تعالى: (فظلموا بها).
ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو: وضع الشيء في غير محلّة، ولا شك في أن الآيات الإِلهية توجب أن يسلّم الجميع لها، وبقبولها يصلح الإِنسان نفسه ومجتمعه، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.
ثمّ يقول تعالى في ختام الآية: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين).
وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.
وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.
أمّا الآيات اللاحقه فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.
فيقول أوّلا: (وقال موسى يا فرعون إنّي رسول من ربّ العالمين).
وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين "الحق" و"الباطل".
والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة ب- "يا فرعون" وهو خطاب رغم كونه مقروناً برعاية الأدب، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل: يا مالكنا، يا سيدنا، يا ربنا، وما شابه ذلك.
وتعبير موسى هذا، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر.
هذا مضافاً إلى أن عبارة موسى (إنّي رسول من ربّ العالمين) كانت - في الحقيقة - نوعاً من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون، لأنّ هذا التعبير يثبت أن فرعون و نظراءه من أدعياء الرّبوبية يكذبون جميعاً في ادعائهم، وأن ربّ العالمين هو الله فقط، لا فرعون ولا غيره من البشر.
وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب الله قال: فالآن إذ أنا رسول ربّ العالمين ينبغي ألا أقول عن الله إلاّ الحق، لأنّ المرسل من قبل الله المنزّه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذباً (حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلاّ الحق).
ثمّ لأجل توثيق دعواه للنّبوة، أضاف: أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب الله (قد جئتكم ببينة من ربّكم).
فإذا كان الأمر هكذا (فأرسل معي بني إسرائيل).
وكان هذا في الحقيقة قسماً من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الإستعمار الفرعوني، ووضع عنهم إصرهم وأغلال العبودية التي كانت تكبّل أيديهم وأرجلهم، لأنّ بني إسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيداً أذلاّء بأيدي القبطيين (أهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالأعمال السافلة والصعبة والثقلية.
ويستفاد من الآيات القادمة - وكذا الآيات القرآنية الأُخرى بوضوح وجلاء أنّ موسى كان مكلفاً بدعوة فرعون وغيره من سكان أرض مصر إلى دينه، يعني أن رسالته لم تكن منحصرة في بني إسرائيل.
فقال فرعون بمجرّد سماع هذه العبارة - (أي قوله: قد جئتكم ببيّنة) - هات الآية التي معك من جانب الله إن كنت صادقاً (قال إن كنتَ جئتَ بآية فأت بها إن كنت من الصادقين).
وبهذه العبارة اتّخذ فرعون - ضمن إظهار التشكيك في صدق موسى - هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهراً، كما يفعل أي متحر للحقيقة باحث عن الحق.
ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظميتين التي كانت إحداهما مظهر "الخوف" والأُخرى مظهر "الأمل" وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره، وألقى في البداية عصاه: (فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) (2).
والتعبير ب- "المبين" إشارة إلى أنّ تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقّاً، ولم يكن سحراً وشعبذة وما شاكل ذلك، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم: إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر، وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك، وما هي بحيات حقيقة وواقعاً.
إنّ ذكر هذه النقطة أمرٌ ضروري، وهي أنّنا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل، والآية (31) من سورة القصص، أن العصا تحركت كالجانّ، و "الجانّ" هي الحيات الصغيرة السريعة السير، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة "ثعبان" التي تعني الحية العظيمة ظاهراً.
ولكن مع الإلتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى، والآية المبحوثة هنا ترتبط بحين مواجهته لفرعون، تنحل المشكلة، وكأن الله أراد أن يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجاً فهي تظهر في البداية أصغر، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.
هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!
على كل حال لا شك في أنّ تبديل "العصا" إلى حية عظيمة معجزة، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفة، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد - الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية - ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق الطبيعة.
ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب، والأخشاب والنباتات هي الأُخرى من التراب، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين، ولكن في ضوء الإِعجاز تقصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة، فتتخذ القطعة من الخشب - التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين - تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.
والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية - وينفوا طابعها الإعجازي، ويظهروها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب السماوية.
إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم: هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكماً على قوانين الطبيعة، أم لا؟
فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلاّ لغواً لديهم.
وإذا كانوا مؤمنين بذلك، فما الداعي لنحت، مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية.
(وإن لم نر أحداً من المفسّرين - على ما بينهم من اختلاف السليقة - عمد إلى هذا التّفسير المادي، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).
ثمّ إنّ الآية اللاحقة تشير إلى المعجزة الثّانية للنّبي موسى (عليه السلام) التي لها طابع الرجاء والبشارة، يقول تعالى: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين).
"نزع" تعني في الأصل أخذ شيء من مكان، مثلا أخذ العباءة من الكتف واللباس عن البدن يعبر عنه في اللغة العربية بالنزع فيقال: نزع ثوبه ونزع عباءته، وهكذا أخذ الروح من البدن يطلق عليه النزع.
وبهذه المناسبة قد يستعمل في الإستخراج، وقد جاءت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بهذا المعنى.
ومع أنّ هذه الآية لم يرد فيها أي حديث عن محل إخراج اليد، ولكن من الآية (32) من سورة القصص (اُسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء) يستفاد أنّ موسى كان يدخل يده في جيبه ثمّ يخرجها ولها بياض خاص، ثمّ تعود إلى سيرتها وحالتها الأُولى.
ونقرأ في بعض الأحاديث والرّوايات والتفاسير أنّ يد موسى كانت مضافاً إلى بياضها تشعّ بشدّة، ولكن الآيات القرآنية ساكتة عن هذا الموضوع، مع عدم تناف بينهما.
إنّ هذه المعجزة والمعجزة السابقة حول العصا - كما قلنا سابقاً - ليس لها جانب طبيعي وعادي، بل هي من صنف خوارق العادة التي كان يقوم بها الأنبياء، وهي غير ممكنة من دون تدخل قوة فوق طبيعية في الأمر.
وهكذا أراد موسى بإظهار هذه المعجزة أن يوضح هذه الحقيقة، وهي أن برامجه ليس لها جانب الترهيب والتهديد، بل الترهيب والتهديد للمخالفين والمعارضين، والتشويق والإصلاح والبناء والنورانية للمؤمنين.
1- صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.
2- إحتمل "الراغب" في "المفردات" أن تكون كلمة ثعبان متخذة من مادة "ثعب" بمعنى جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهر التي تجري بصورة ملتوية.