الآيتان 44 - 45

﴿وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهلْ وَجَدتُم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقَّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّلمِينَ 44 الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ45﴾

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريفين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا: (ونادى أصحابُ الجنّة أصحابَ النّار أن قد وجدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً).

فيجيبهم أهل النّار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك.

عين الحقيقة (قالوا: نعم).

ويجب الإِلتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضياً، إلاّ أنّه هنا يعطي معنى المضارع، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم، حيث يذكر الحوادث التي تقع فى المستقبل حتماً بصيغة الفعل الماضي، وهذا يعدّ نوعاً من التأكيد، يعني أنّ المستقبل واضح جدّاً، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير ب- "نادى" الذي يكون عادةً للمسافة البعيدة، يصوّر بُعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم، لأنّ السؤال ليس دائماً للحصول على المزيد من المعلومات، بل قد يتّخذ أحياناً صفة العتاب والتوبيخ والملامة، وهو هنا من هذا القبيل.

و هذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عندما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة، والملامات المزعجة، فلابدّ - في الآخرة - أن ينالوا عقاباً من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة الله على الظالمين (فأذّنَ مُؤَذِّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين).

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله: (الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون) (1).

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أُخرى أنّ جميع الإنحرافات والمفاسد قد إجتمعت في مفهوم "الظلم" وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب، والآثام، وخصوصاً الضالون المضِلُّون.

من هو المُؤذِّن! والمنادي؟

مَن هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟

وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين علي (عليه السلام).

روى الحاكم أبوالقاسم الحسكاني - الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن "محمّد بن الحنفية" عن علي (عليه السلام) أنّه قال: "أنا ذلك المؤذّن".

وهكذا روى بسنده عن "ابن عباس" أنّ لعلّي (عليه السلام) أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس، منها "المؤذّن" في قول الله تعالى: (فأذن مؤذنُ بينهم) فهو الذي ينادي بين الفريفين أهل الجنّة وأهل النّار، ويقول: "ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي" (2).

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة، منها ما رواه الصّدوق (رحمه الله) بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) خطب بالكوفة منصرفه في نهروان، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً (إلى أن قال) : "وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عزَّوجلَّ (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين) أنا ذلك المؤذن، وقال: (وأذان من اللّه ورسوله) أنا ذلك الأذان" (3).

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) مؤذناً ومنادياً في ذلك الوقت هو:

أوّلا: لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا أيضاً، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأُولى من سورة البراءة على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج، تلك الآيات التي تبدأ بقوله: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله) (4).

ثانياً: إنّ موقف الإمام علي (عليه السلام) طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم، والنضال ضدالظالمين، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟

وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق، لم يبق أي مجال لإستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار، بأمر من الله والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو على (عليه السلام).

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب "المنار" الذي شكك في كون هذا المقام لعلي (عليه السلام) فضيلة، إذ يقول: ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأدين إليه كرم الله وجهه معنىً يعدُّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(5).

إذ يجب أن نقول له: كما أنّ النيابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائله (عليه السلام)، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمراراً لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضاً.

كما يتّضح ممّا قلناه - أيضاً - الردّ على ما كتبه "الآلوسي" كاتب تفسير "روح المعاني" الذي قال: ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة (6).

لأن هذا الحديث - كما أسلفنا - نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم، فلا مجال للتشكيك في صدوره.


1- يبغونها عوجاً بمعنى يطلبونها عوجاً، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في "المفردات": عَوج (بفتح العين) يعني الإعوجاج الحسي، وعوج بكسر العين يطلق على الإعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

2- مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

3- تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.

4- التوبة، 3.

5- تفسير المنار، ج 8، ص 426.

6- روح المعاني، ج 8، ص 123.