الآيات 11 - 18
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَـكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّـجِدِينَ11 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين12 قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّـغِرِينَ13 قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ14 قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ15 قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لاََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَطَكَ الْمُسْتَقِيمَ16 ثُمَّ لاََتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـكِرِينَ17 قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ18﴾
التّفسير
قصّة عصيان إِبليس
لقد أشير إِلى مسألة خلق الإِنسان وكيفية إِيجاده في سبع سور من سُوَر القرآن الكريم، والهَدَفَ من ذكر هذا الموضوع - كما سبق أن أشرنا في الآية السابقة - هو بيان شخصية الإِنسان، ومقامه، ومنزلته بين كائنات العالم، وبعث روح الشكر والحمد فيه.
لقد جاء ذكر خلق الإِنسان من التراب، وسجود الملائكة له، وتمرّد الشيطان وعصيانه، ثمّ موقفه تجاه النوع الإِنساني في هذه السور بتعابير مختلفة.
وفي الآية المبحوثة الآن يقول الله تعالى: (ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) جدّكم الأوّل، ومن المأمورين بالسجود إِبليس الذين كان موجوداً في صفوفهم وإن لم يكن منهم، فامتثلوا لهذا الأمر جميعاً وسجدوا لآدم إِلاّ إِبليس: (فسجدوا إِلاّ إِبليس لم يكن من الساجدين).
ويمكن أن يكون ذكر "الخلق" في الآية الحاضرة قبل "التصوير" إِشارة إِلى: أنّنا أوجدنا المادة الأصلية للإِنسان أوّلا، ثمّ أفضنا عليها الصورة الإِنسانية.
بحثان
1 - سجود الملائكة لم يكن سجود عبادة
كما قلنا في ذيل الآية (34) من سورة البقرة: إِنّ سجود الملائكة لآدم لم يكن سجود عبادة، لأن العبادة مخصوصة الله سبحانه، بل السجدة هنا بمعنى التواضع (أي الخضوع أمام عظمة آدم وسموّ منزلته في عالم الخليقة) أو بمعنى السجود لله الذي خلق مثل هذا المخلوق المتعادل المتوازن.
2 - إِبليس لم يكن من الملائكة
إِنّ "إِبليس" - كما قلنا في ذيل تلك الآية - لم يكن من الملائكة، بل هو حسب صريح الآيات القرآنية من قسم آخر من الكائنات يُدعى "الجنّ" (وللمزيد من التوضيح راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير في الحديث عن سجود الملائكة لآدم).
في الآية الاحقة يقول تعالى: أنه أخذ إِبليس على عصيانه وطغيانه، و (قال ما منعك أن لا تسجد إِذ أمرتك).
فتذرع - في مقام الجواب - بعذر غير وجيه إِذ: (قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
وكأن إِبليس كان يتصوّر أنّ النّار أفضل من التراب، وهذه هي أكبر غلطاته وأخطائه، ولعلّه لم يقل ذلك عن خطأ والتباس، بل كذب عن وعي وفهم، لأنّنا نعلم أنّ التراب مصدرُ أنواع البركات، ومنبَعُ جميع المواد الحياتية، وأهم وسيلة لمواصلة الموجودات الحية حياتها، على حين أن الأمر بالنسبة إِلى النّار ليس على هذا الشكل.
صحيح أنّ النّار أحد عوامل التجزئة والتركيب في الكائنات الموجودة في هذا الكون، ولكن الدور الأصلي والأساسي هو للمواد الموجودة في التراب، وتعدّ النّار وسيلة لتكميلها فقط.
وصحيح أيضاً أنّ الكرة الأرضية انفصلت - في بداية أمرها - عن الشمس، وكانت على هيئة كرة نارية فبردت تدريجاً، ولكن يجب أن نعلم أن الأرض مادامت مشتعلة، وحارة لم يكن عليها أي كائن حيّ، وإِنّما ظهرت الحياة على سطح هذا الكرة عندما حلّ التراب والطين محل النّار.
هذا مضافاً إِلى أنّ أية نار ظهرت على سطح الأرض كان مصدرها مواد مستفادَة من التراب، ثمّ إِنّ التراب مصدر نموّ الأشجار، والأشجار مصدر ظهور النّار، وحتى المواد النفطية أو الدهون القابلة للاشتعال والإِحتراق تعود أيضاً إِلى التراب أو إِلى الحيوانات التي تتغذى من المواد النباتية.
على أنّ ميزة الإِنسان - بغض النظر عن كل هذه الأُمور - لم تكن في كونه من التراب، بل إِنّ ميزته الأصلية تكمن في "الروح الإِنسانية" وفي خلافته لله تعالى.
وعلى فرض أنّ مادة الشيطان الأصلية كانت أفضل من مادة الإِنسان، فإِن ذلك لا يعني تسويغ عدم السجود للإِنسان الذي خلق بتلك الروح، ووهبه الله تلك العظمة، وجعله خليفة له على الأرض.
والظاهر أنّ الشيطان كان يعرف بكل هذه الأُمور، ولكن التكبر، والأنانية هما اللذان منعاه عن امتثال أمر الله، وكان ما أتى به من العذر حجة داحضة، ومحض تحجج وتعلّل.
أوّل قياس هو قياس الشيطان:
القياس في الأحكام والحقائق الدينية مرفوض بشكل قاطع في أحاديث عديدة وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)، ونقرأ في هذه الأحاديث أنّ أوّل من قاس هو الشيطان.
قال الإِمام الصادق (ع) لأبي حنيفة: "لا تقسْ، فإِن أوّل من قاس إِبليس" (1).
وقد روي هذا المطلب في تفاسير أهل السنة قديماً وحديثاً مثل تفسير "الطبري" عن "ابن عباس" وتفسير المنار و "ابن سيرين" و"الحسن البصري" (2).
والمراد من القياس هو أن نقيس موضوع على آخر يتشابهان من بعض الجهات، ونحكم للثّاني بنفس الحكم الموجود للموضوع الأوّل من دون أن نعرفَ فلسفة الحكم وأسراره كاملا، كأن نقيس "بول" الإِنسان المحكوم بالنجاسة، ووجوب الإِجتناب عنه بعرق الإِنسان، ونقول: بما أنّ هذين الشيئين يتشابهان من بعض الجهات وفي بعض الأجزاء، لهذا يسري حكم الأوّل إِلى الثاني فيكون كلاهما نجسين، في حين أنّهما حتى لو تشابها من جهات فهما متفاوتان مختلفان من جهات أُخرى أيضاً، فأحدهما أرق والآخر أغلظ،
والإِجتناب من أحدهما سهل، ومن الآخر صعب وشاق جدّاً، هذا مضافاً إِلى أنه ليست فلسفة الحكم الأوّل معلومة لنا بالكامل، فمثل هذا القياس ليس سوى قياس تخميني لا أكثر.
ولهذا السبب منع أئمّتنا (عليهم السلام) من القياس بشدّة، استلهاماً من كلام النّبي (ص) وأبطلوه، لأنّ فَتْح باب القياس يتسبب فيأن يعمدَ كلُ أحدِ بالاعتماد على دراسته المحدودة وفكره القاصر وبمجرّد أن يعتبر موضوعين متساويين من بعض الجهات... أن يعمد إِلى إِجراء حكم الأوّل على الثاني، وبهذا تتعرض قوانين الشرع وأحكام الدين إِلى الهرج والمرج.
إِنّ بطلان القياس عقلا ليس مقصوراً على القوانين الدينية فحسب، فالأطباء هم أيضاً يؤكّدون في توصياتهم على أن لا تعطى وصفة أيّ مريض لمريض آخر مهما تشابها من بعض النواحي، وفلسفة هذا النهي واضحة، لأنّه قد يتشابه المريضان في نظرنا من بعض النواحي، ولكن مع ذلك يتفاوتان من جهات عديدة، مثلا من جهة القدرة على تحمّل الدواء، وفئة الدم، ومقدار السكر في الدم، ولا يستطيع الأشخاص العادّيون من الناس أن يشخّصوا هذه الأُمور، بل تشخيصها يختص بالأطباء وذوي الاختصاص في الطب، فلو أُعطيت أدوية مريض لآخر دون ملاحظة هذه الخصوصيات، فمضافاً إِلى احتمال عدم الانتفاع بها، فإنّها ربّما تكون منشأً لسلسلة من الأخطار غير القابلة للجبران.
والأحكام الإِلهية أدقّ من هذه الجهة، ولهذا جاء في الأحاديث والأخبار أنه لو عُمِلَ بالقياس لمُحِقَ الدين، أو كان فساده أكثر من صلاحه (3).
أضف إِلى ذلك أنّ اللجوء إِلى القياس لاكتشاف الأحكام ومعرفتها دليل على قصور الدين، لأنّه إِذا كان لكل موضوع حكمٌ في الدين لم يكن أية حاجة إِلى القياس، ولهذا فإِنّ الشيعة حيث أنّهم أخذوا جميع احتياجاتهم من الأحكام الدينية من مدرسة أهل البيت ورثة النّبي الأكرم (ص) لم يروا حاجة إِلى اللجوء إِلى القياس، ولكن فقهاء السنة حيث أنّهم تجاهلوا مدرسة أهل البيت الذين هم حسب نص النّبي الملجأ الثّاني للمسلمين بعد القرآن الكريم لذلك واجهوا نقصاً في مصادر الأحكام الإِسلامية وأدلتها، ولم يروا مناصاً من اللجوء إِلى القياس.
وأمّا في مورد الشيطان، فنحن نقرأ في النصوص والرّوايات أنّه كان أوّل من قاس، والنكتة فيها أنّه قاس خلقته - من الناحية المادية - بخلقة آدم، وتمسك بأفضلية النّار على التراب في بعض الجهات، واعتبر ذلك دليلا على أفضلية النّار من جميع النواحي، من دون أن يلتفت إِلى امتيازات التراب، بل ومن دون أن يلتفت إِلى امتيازات آدم الروحانية والمعنوية، فحكم على طريق ما يسمّى بقياس الأولوية، ولكن قياساً على أساس التخمين والظن والدراسة السطحية والمحدودة، بأفضليته على آدم، بل ودفعه هذا القياس الباطل إِلى تجاهل الأمر الإِلهي.
والملفِت للنظر أنّه وَرَدَ في بعض الرّوايات المروية عن الإِمام الصادق (ع) في مؤلفات الشيعة والسنة معاً أنه قال: "من قاس أمرَ الدين برأيه قَرَنَه الله تعالى يوم القيامة بإِبليس" (4).
وباختصار، إِنّ قياس موضوع بموضوع آخر من دون علم بجميع أسراره وفلسفته، لا يصح أن يكون دليلا على اتحاد حكمهما، ولو أنّ القياس تطرق إِلى مسائل الدين وقضايا الشريعة لم تبق للأحكام ضابطة ثابتة، إِذ يمكن حينئذ أن يقيس شخصٌ ما موضوعاً بنحو، ويصدر حكماً بحرمته، ويقيس شخص آخر الموضوع نفسَه بنحو آخر ويصدر حكماً بحليّته.
والمورد الوحيد الذي يمكن استثناؤه من هذا الأمر هو ما إِذا ذكر المقنّنُ أو الطبيبُ نفسه دليل حكمه وفلسفة قانونه، ففي هذه الحالة يجوز لنا إِذا رأينا هذا الدليل وهذه الفلسفة في موضوع آخر أن نجري الحكم فيه ونُعَدِّيهِ إِليه أيضاً، وهذا هو ما اصطُلِح عليه بالقياس "المنصوص العلّة" مثلا: إِذا قال الطبيب للمريض: يجب أن تتجنب تناول الفاكهة الفلانية لأنّها حامضة، علم المريض بأنّ الحموضة تضرّهُ، وأنّه يجب أن يتجنب الحموضة وإِن كان في فاكهة أُخرى.
وهكذا إِذا صرّح القرآنُ الكريم أو صرّحت السُنّة الشريفة بأن: تجنَّبوا الخمر لأنّه مسكر، علمنا أنّ كل مسكر حرام (وإن لم يكن خمراً) ويجب اجتنابه.
إِنّ هذا القياس ليس باطلا ولا ممنوعاً، لأنّه معلوم الدليل ومنصوص العلّة مقطوع بها والقياس الممنوع هو فيما إِذا لم نعلم بدليل الحكم وفلسفته بصورة القطع ومن جميع الجهات.
على أن مبحث القياس مبحثٌ واسعُ الأطراف، وما مضى من البحث ما إلاّ هو عصارة منه، ولمزيد التوضيح والإِطلاع راجعوا كتب أُصول الفقه وكتب الأخبار، باب القياس، ونحن نختم البحث الحاضر بذكر حديث في هذا المجال.
جاء في كتاب "علل الشرائع" دخل أبو حنيفة على الإِمام الصادق (ع) فقال له : "يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس؟ قال: نعم، أنا أقيس.
قال: لا تقس فإِنّ أوّل من قاس إِبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين فقاس ما بين النّار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النّار عرف فضل من بين النّورين وصفاء أحدهما على الآخر" (5).
جوابٌ على سؤال:
بقي هنا سؤال وهو: كيف كان يتحدث الشيطان مع الله، فهل كان ينزل عليه الوحي؟
الجواب هو: أنّ كلام الله لا يكون بالوحي دائماً، فالوحي عبارة عن رسالة النبوّة، فلا مانع من أن يكلّم الله أحداً لا بعنوان الوحي والرسالة، بل عن طريق الباطني أو بواسطة بعض الملائكة، سواء كان من يحادثه الله من الصالحين الأبرار مثل مريم وأُمّ موسى، أو من غير الصالحين مثل الشيطان!
ولنعد الآن إِلى تفسير بقية الآيات:
حيث أن امتناع الشيطان من السجود لآدم (ع) لم يكن امتناعاً بسيطاً وعادياً ولم يكن معصية عادّية، بل كان تمرّداً مقروناً بالاعتراض والإِنكار للمقام الربوبي، لأنّه قال: أنا أفضل منه، وهذه الجملة تعني في حقيقة الأمر أن أمرك بالسجود لآدم أمرٌ مخالفٌ للحكمة والعدالة وموجب لتقديم "المرجوح" على "الراجح" لهذا فإِنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإِنكار العلم والحكمة الإِلهيين، فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته، وبالتالي كل ما له من مكانة عند الله، ولهذا أخرجه الله من ذلك المقام الكريم، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بها في صفوف الملائكة، فقال له: (فاهبط منها).
وقد ذَهَبَ جمعٌ من المفسّرين في ضمير "منها" إِلى إِرجاعه إِلى "السماء" أو "الجنّة" وذَهَبَ آخرون إِلى إِرجاعها إِلى "المنزلة الدرجة"، وهما لا يختلفان كثيراً من حيث النتيجة.
ثمّ إِنّه تعالى شرح له منشأ هذا السقوط والتنزّل بالعبارة التّالية: (فما يكونُ لَكَ أن تتكّبر فيها).
وأضاف للتأكيد قائلا: (فاخرج إِنّك من الصّاغرين) يعني إنّك بعملك وموقفك هذا لم تصبح كبيراً، بل على العكس من ذلك أصبتَ بالصغار والذلة.
إِنّ هذه الجملة توضح بجلاء أن شقاء الشيطان كله كان وليدَ تكبره، وإِن أنانيته هذه التي جعلته يريى نفسه أفضلَ ممّا هو، هي التي تسببت في أن لا يكتفي بعدم السجود لأدم، بل وينكر علم الله وحكمته، ويعترض على أمر الله، وينتقده، فخسر على أثر ذلك منزلته ومكانته، ولم يحصد من موقفه إِلاّ الذلة
والصغار بدل العظمة وهذه يعني أنّه لم يصل إِلى هدفه فحسب، بل بات على العكس من ذلك.
ونحن نقرأ في نهج البلاغة "الخطبة القاصعة" في كلام أميرالمؤمنين (ع) عند ذمّه للتكبر والعجب مايلي: "فاعتبروا بما فعل الله بإِبليس إِذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة... عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إِبليس يسلَم على الله بمثل معصيته؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها مَلَكاً، إِنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض الواحد" (6).
وقد جاء أيضاً عن الإِمام علي بن الحسين (ع) أنّه قال: "إنّ للمعاصي شعباً، فأوّل ما عصي الله به الكبر، وهي معصية إِبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحواء... ثمّ الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله" (7).
وكذا نقل عن الإِمام الصادق (ع) أنه قال: "أُصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد، فأمّا الحرص فإِن آدم حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكل منها، وأمّا الاستكبار فإِبليس حيث أُمِر بالسجود لآدم فأبى، وأمّا الحسد فإبنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه" (8).
ولكن قصّة الشيطان لم تنته إِلى هذا الحدّ، فهو عندما عرف بأنه صار مطروداً من حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته، وبدل أن يتوب ويثوب إِلى الله ويعترف بخطئه فإِنّ الشيء الوحيد الذي طلبه من الله تعالى هو أن يمهله ويؤجّل موته إِلى يوم القيامة: (قال انظرني إِلى يوم يُبعثون).
ولقد استجاب الله لهذا الطلب، فـ (قال إِنّك من المنظَرين).
إِنّ هذه الآيات وان لم تصرّح بالمقدار الذي استجيب من طلب الشيطان من حيث الزمن، إِلاّ أننا نقرأ في الآية (رقم 3) من سورة الحجر أنه تعالى قال له: (إِنّك من المنظرين إِلى يوم الوقت المعلوم) وهذا يعني أن مطلب الشيطان لم يستجب له بتمامه وكماله، بل استجيب إِلى الوقت الذي يعلمه الله تعالى (وسوف نبحث عند تفسير الآية (رقم 3) من سورة الحجر حول معنى قوله (إلى يوم الوقت المعلوم) إِن شاء الله).
غير أنّ الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإِمهال الطويل) الحصول على فرصة لجبران مافات منه أو ليعمّر طويلا، إِنّما كان هدَفه من ذلك هو إِغواء بني البشر (وقال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم) أي لأغوينهم كما غويتُ، ولأُضِلنّهم كما ضللتُ.
إِبليس أوّل القائلين بالجبر:
يستفاد من الآية الحاضرة أن الشيطان لتبرئة نفسه نسب إِلى الله الجبر إِذ قال: (فبما أغويتني) لأغوينهم.
بعض المفسّرين أصرّ على تفسير جملة (فبما أغويتني) بنحو لا يُفهَمُ منه الجبر، إِلاّ أن الظاهر هو أنه لا موجب لمثل هذا الإِصرار.
وشاهد هذا القول هو ما روي عن أميرالمؤمنين (ع) : "كان أميرالمؤمنين جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إِذا أقبل شيخ فجثا بين يديه ثمّ قال له: يا أميرالمؤمنين: اخبرنا عن مسيرنا إِلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟ فقال له أمير المؤمنين (ع) :"أجل مه يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه وقدر".
فقال له الشّيخ: عند اللّه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.
فقال له (ع) : "يا شيخ فواللّه لقد عظم اللّه تعالى لكم الأجر في مسيرتكم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين".
فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا.
(فاستفاد السائل من هذه الإِجابة الجبرية)
فقال له (ع) : "أو تظن أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً أنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه تعالى وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها..." (9)ومن هذا يتّضح أنّ أوّل من وقع في ورطة الاعتقاد بالجبر هو الشيطان.
ثمّ إِنّ الشيطان أضاف - تأكيداً لقوله - بأنّه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم، بل سيأتيهم من كل حدب وصوب، ويسدّ عليهم الطريق من كل جانب (ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين).
ويمكن أن يكون هذا التعبير كناية عن أنّ الشيطان يحاصر الإِنسان من كل الجهات ويتوسل إِلى إغوائه بكل وسيلة ممكنة، ويسعى في إِضلاله، وهذا التعبير دارج في المحاورات اليومية أيضاً، فنقول: فلان حاصرته الديون أو الأمراض من الجهات الأربع.
وعدم ذكر الفوق والتحت إِنّما هو لأجل أنّ الإِنسان يتحرك عادة في الجهات الأربع المذكورة، ويكون له نشاط في هذه الأنحاء غالباً.
ولقد نقل في حديث مروي عن الإِمام الباقر (ع) تفسير أعمق لهذه الجهات الأربع حيث قال: "ثمّ قال: لآتينّهم من بين أيديهم، معناه أهوّن عليهم أمر الآخرة، ومن خلفهم، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم.
وعن أيمانهم، أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة.
وعن شمائلهم، بتحبيب اللذّات إِليهم وتغليب الشّهوات على قلوبهم" (10).
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة هنا يصدر مرّة أُخرى الأمر بخروج الشيطان من حريم القرب الإِلهي والمقام الرفيع، بفارق واحد هو أن الأمر بطرده هنا اتّخذ صورة أكثر ازدراءً وتحقيراً، وأشدّ عنفاً ووقعاً، ولعلّ هذا كان لأجل العناد واللجاج الذي أبداه الشيطان بالإِلحاح على الوسوسة للإِنسان وإِغوائه وإِغرائه، يعني أن موقفه الأثيم في البداية كان منحصراً في التمرد على أمر الله وعدم إمتثاله، ولهذا صدر الأمر بخروجه فقط، ولكن عندما أضاف معصية أكبر إِلى معصيته بالعزم على إِضلال الآخرين جاء الأمر المشدَّد: (قال أُخرج منها مذءوماً مدحوراً).
ثمّ حلف على أن يملأ جهنم منه ومن اتباعه (لمن تبعك منهم لأملأنّ جهنم منكم أجمعين).
فلسفة خلق الشيطان وحكمة إِمهاله:
في مثل هذه الأبحاث تتبادر إِلى الأذهان - عادة - أسئلة متنوعة ومختلفة أهمها سؤالان:
1 - لماذا خلق الله الشيطان، مع أنّه علم بأنّه سيكون منشأ للكثير من الوساس والضلالات؟
2 - بعد أن ارتكب الشيطان مثل تلك المعصية الكبيرة، لماذا قبل الله طلبه في الإِمهال، وتأخير الأجل؟
وقد أجبنا على السؤال الأوّل في المجلد الأوّل من تفسيرنا هذا (الأمثل) وقلنا:
أوّلا: إنّ خلق الشيطان كان في بداية الأمر خلقاً جيداً، لا عيب فيه، ولهذا احتل موقعاً في صفوف المقرّبين إِلى الله، وبين ملائكته العظام، وإِن لم يكن من جنسهم ثمّ إِنّه بسوء تصرّفه في حريته بنى على الطغيان والتمرد، فطرد من ساحة القرب الإِلهي، واختصَّ باسم الشيطان.
ثانياً: إِنّ وجود الشيطان ليس غيرَ مضرٍّ بالنسبة سالكي طريق الحقّ فحسب، بل يعدُّ رمزاً لتكاملهم أيضاً، لأنّ وجود مثل هذا العدوّ القويّ في مقابل الإِنسان يوجب تربية الإِنسان وتكامله وحنكته، وأساساً ينبثق كل تكامل من بين ثنايا التناقضات والتدافعات، ولا يسلك أي كائن طريق كماله ورشده إِلاّ إِذا واجه ضداً قوياً، ونقيضاً معانداً.
فتكون النتيجة أنّ الشيطان وإِن كان بحكم إِرادته الحرّة مسؤولا تجاه أعماله المخالفة، ولكن وساوسه لن تضرّ عباد الله الذين يريدون سلوك طريق الحقّ، بل يكون مفيداً لهم بصورة غير مباشرة.
والجواب على السؤال الثاني يتضح ممّا قلناه في الجواب على الاعتراض الأوّل، لأنّ مواصلة الشيطان لحياته كقضية سلبية يكون وجودها ضرورياً لتقوية نقاط إِيجابية، لا يكون غير مضرٍّ فحسب، بل هو مؤثّر ومفيد أيضاً، فإِنّه مع غضّ النظر عن الشيطان، هناك مجموعة من الغرائز المختلفة في داخِلنا، وهي بوقوفها في الطرف الآخر من قوانا العقلية والروحية تشكّلان ساحة صراح وتناقض قويّين، وفي مثل هذه الساحة يتحقق تقدم الإِنسان وتكامله، وتربيته ورشده.
واستمرار حياة الشيطان - هو الآخر - لتقوية عوامل هذا التناقض المثمر المفيد.
وبعبارة أُخرى: إِنّ الطريق المستقيم يتميّز دائماً بالالتفات إِلى الطرق المنحرفة حوله ولولا هذه المقايسة والمقارنة لما أمكن تمييز الطريق المستقيم عن الطريق المنحرف.
كلّ هذا بغض النظر عن أنّنا نقرأ في بعض الأحاديث أنّ الشيطان بعد قيامه بذلك الذنب، عرّض سعادته ونجاته في العالم الآخر للخطر بصورة كلّية، ولهذا فإِنّه طلب من الله تعالى أن يعطيه عمراً طويلا في هذه الدنيا في مقابل عباداته التي كان قد أتى بها قبل ذلك، وكانت العدالة الإِلهية تقتضي قبول مثل هذا الطلب.
إِنّ النقطة المهمّة الأُخرى التي يجب الإِنتباه إِليها - أيضاً - هي أنّ الله تعالى وإِن كان ترك الشيطان حرّاً في القيام بوساوسه، ولكنّه من جانب آخر لم يدع الإِنسان مجرّداً من الدفاع عن نفسه.
لأنّه أوّلا: وهبه قوّة العقل التي يمكن أن توجد سدّاً قوياً منيعاً فى وجه الوساوس الشيطانية خاصّة إِذا لقيت تربية صالحة.
وثانياً: جعل الفطرة النقيّة وحبّ التكامل في باطن الإِنسان كعامل فعال من عوامل السعادة.
وثالثاً: يبعث الملائكة التي تلهم الخيرات إِلى الذين يريدون أن يعيشوا بمنأى عن الوساوس الشيطانية، كما يصرّح القرآن الكريم بذلك إِذ يقول: (إِنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) (11) إِنّها تنزل عليهم لتقوية معنوياتهم بإِلهامهم ألوان البشارات والتطمينات لهم.
ونقرأ في موضوع آخر: (إِذ يوحي ربُّك إِلى الملائكة أنّي معكم فثبتوا الذين آمنوا) (12) وسدّدوا خطاهم في طريق الحق.
فرضية تطور الأنواع وخلقة آدم:
هل هناك تلاؤم بين ما يقوله القرآن الكريم في خلقة آدم، مع ما هو مطروح في فرضية الأنواع في أبحاث العلوم الطبيعية، أو لا؟
وأساساً هل بلغت فرضية التطور والتكامل مرحلة القطعية واليقين من وجهة نظر العلماء، أو لا؟... كل هذه الأُمور بحاجة إِلى أبحاث مفصلة سوف نخوضها بمشيئة الله في ذيل آيات أكثر تناسباً، مثل الآيات (26) إلى (33) من سورة الحجر.
1- نور الثقلين، المجلد الثاني0 الصفحة 6.
2- تفسير المنار، المجلد 8 الصفحة 321، وتفسير الطبري، الجزء 8 و9، وتفسير القرطبي، ج4 الصفحة 2067.
3- وسائل الشيعة، المجلد 18، باب القياس.
4- تفسير المنار، ج 8، ص 331 ونور الثقلين، ج 2، ص 7.
5- نور الثقلين، ج 2، ص 6، وعلل الشرائع، ص 86.
6- إطلاق "المَلَك" على الشيطان إنما هو لأجل أنّه كان له مكان في صفوف الملائكة، وكان رديفاً لهم لا أنّه كان منهم ومن جنسهم كما قلنا سابقاً.
7- سفينة البحار، مادة كبر.
8- أصول الكافي، ج 2، ص 219، باب أُصول الكفر.
9- حق اليقين في معرفة اصول الدين، ج1، ص72.
10- تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 404.
11- فصّلت، 30.
12- الأنفال، 12.