الآيات 6 - 9
﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ6 فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْم وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ7 وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ8 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِأَيَـتِنَا يَظْلِمُونَ9﴾
التّفسير
التّحقيق الشّامل:
لقد تضمنت الآيات السابقة إِشارة إِلى معرفة الله ونزول القرآن الكريم، أمّا الآيات أعلاه فانها تتحدث عن المعاد فهي مكملة للآيات السالفة، مضافاً إِلى أنّ الآية المتقدمة تحدثت عن الجزاء الدنيوي للظالمين، وهذا الآيات تبحث في الجزاء والعقاب الأُخروي لهم، وبهذايتضح الإِرتباط بينها.
يقول تعالى أوّلا وهو يقرر سُنّة عامّة: (فلنسألن الذين أُرسل إِليهم) أي أنّنا سنسأل في يوم القيامة كل من أرسلنا لهدايته رسولا، حتماً ودون ريب.
بل ونسأل كذلك الأنبياء أيضاً: ماذا فعلوا في مجال تبليغ رسالتهم: (ولنسألن المرسَلين).
وعلى هذا الأساس فالجميع مسؤولون، قادةً وأتباعاً، رسلا ومرسلا إِليهم، غاية ما في الأمر أنّه يختلف السؤال والمسؤوليات من طائفة إِلى أُخرى.
وثمّة حديث مروي عن الإِمام أميرالمؤمنين (ع) في هذا الصعيد يؤيد هذا المعنى أيضاً، إِذا يقول:"فيقام الرسل فيُسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إِلى أُممهم، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إِلى أُممهم" (1).
هذا وقد صرّح في حديث آخر في تفسير علي بن إِبراهيم بهذا المعنى أيضاً (2).
في الآية اللاحقة - ولكي لا يتصور أحدٌ بأنّ سؤال الله للانبياء يعني أن الأمر قد خفي على الله وغاب عن علمه قال تعالى بصراحة مزيجة بالقَسَم، بأننا سوف نشرح لهم كل أعمالهم بعلمنا، لأنّه ما غاب عنّا شيء من أفعالهم، وما غابوا هم عنّا، فقد كنا معهم في كل حين ومكان: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنّا غائبين).
"لنقصنّ" مأخوذة من "القصة" وهي في الأصل تعني ما يتلو بعضه بعضاً، وحيث أن القضايا عند شرحها يتلو بعضها بعضاً أُطلق عليها لفظ القصة، وهكذا أُطلق على العقوبة التي تتلو الجناية لفظ "القصاص"، ومنه "المقصّ" لأنّه يقطع الشعر بالتوالي، ويقال عمن يبحث عن شيء أنّه "قصّ" لأنّه يبحث الحوادث واحداً بعد واحد.
وحيث إِنّ في هذه الجملة أربعة أنواع من التأكيد (لام القسم، ونون التأكيد، وكلمة علم، التي جاءت بصورة النكرة، والمراد من ذلك بيان عظمته، وجملة ما كان غائبين) لذلك يستفاد منها أنّ المقصود هو: أنّنا نشرح لهم تفاصيل أعمالهم جميعها القذة بالقذة وتباعاً، ليعلموا أنّه لا يخفى عنّا شيء من نيّة أو عمل قط (3).
المساءلة لماذا؟
إِنّ أوّل ما يطرح نفسه هنا هو: نحن نعلم أنّ الله سبحانه يعلم بكل شيء، فهو الحاضر في كل زمان ومكان، الناظر لكل شيء من نيّة أو عمل، فما الحاجة إِلى مساءلة الرسل والأُمم عامّة وبدون إِستثناء؟!
الجواب على هذا السؤال واضح، لأنّ السؤال لو كان للاستعلام والإِستفهام، وبهدف الوقوف على الحقيقة لم يصح أن يقع من العالِم العارِف.
وأمّا إِذا كان المقصود منه هو إِلفات الشخص إِلى ما عمله، أو إِتمام الحجّة عليه، أو ما أشبه ذلك، لم يكن في ذلك بأس ولا ضير، إِذ يشبه ذلك تماماً ما لو أسدَينا إِلى أحد خدمات كثيرة وقابَلَنا بالإِساءة والخيانة، وكان كل ذلك معلوماً معروفاً عندنا، ومع ذلك فإِننا نسائله ونقول: ألسنا قد أسدينا إِليك كذا وكذا من الخدمة؟ فهل كان هذا جزاء الإِحسان إِليك؟؟
إِنّ مثل هذه المساءلة ليست لاكتساب العلم، واكتشاف الحقيقة المجهولة، بل هي لتفهيم الطرف الآخر وإِيقافه على الحقيقة، أو أنّه لتثمين خدمة قام بها أحد المسؤولين وتشجيعه، فنسأله: ماذا فعلت في هذه السفرة التي كلّفت فيها بمهمّة؟ مع أنّنا نعرف من قبل بتفاصيل عمله.
التّوفيق بين آيات المساءلة في القرآن:
قد يُظنَّ أن الآيات المطروحة هنا على بساط البحث، والتي تصرح بكل تأكيد بأن الله يسأل الجميع عمّا فعلوه وارتكبوه، تنافي بعض الآيات القرآنية الأخرى في هذا الصعيد مثلما ما جاء في سورة الرحمان: (فيومئذ لا يُسأَل عن ذنبه إِنس ولا جان... يعرف المجرمون بسيماهم...) (4).
وكذا الآيات الأُخرى التي تنفي السؤال؟
فكيف يمكن التوفيق والجمع بين تلك الآيات والآيات الحاضرة التي تثبت قضية المساءلة يوم القيامة؟!
إِن الإِمعان في هذه الآيات كفيل بأن يكشف كل إِبهام عنها، فإِنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في مجال المساءلة في يوم القيامة أن الناس يمرون في ذلك اليوم بمراحل مختلفة متنوعة، ففي بعض المراحل لا يُسألون عن أي شيء مطلقاً، بل يُختم على أفواههم، وتتكلم أعضاؤهم وجوارحهم التي تحتفظ بآثار أعمالهم في نفسها، كشاهد حيّ لا يردّ يروي أعمالهم بدقة متناهية.
وفي المرحلة الأخرى يُرفع الختم عن أفواههم فيتحدثون ويُسألون فيعترفون عند ذلك - بعد مشاهدة الحقائق التي انكشفت في ضوء شهادة الجوارح - بأعمالهم، تماماً كالمجرم الذي لا يرى بُدّاً من الاعتراف بجرمه عند مشاهدة الأدلة العينية.
وقد احتمل بعض المفسّرين أيضاً في تفسير هذه الآيات، أنّ الآيات النافية للسؤال إِشارة إِلى نفي المساءلة الشفاهية، والآيات المثبتة إِشارة إِلى السؤال من الجوارح وهي تجيب بلسان الحال - مثل حمرة وجه الإِنسان خجلا من انكشاف جرمه - بالحقائق.
وفي هذه الصورة يرتفع التنافي بين هاتين الطائفتين من الآيات.
في الآية اللاحقة - تكميلا لمبحث المعاد - يشير تعالى إِلى قضية "وزن الأعمال" الذي جاء ذكره في السور القرآنية الأُخرى مثل ما جاء في سورة "المؤمنون" في الآية (102 و103) وسورة القارعة الآية (6 و8).
فيقول أوّلا: إِنّ وزن الأعمال يوم القيامة أمر واقع لا ريب فيه: (والوزن يومئذ الحق) (5).
ما هو ميزان الأعمال يوم القيامة؟
لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين والمتكلمين حول كيفية وزن الأعمال يوم القيامة، وحيث أنّ البعض تصور أن وزن الأعمال وميزانها في يوم القيامة يشبه الوزن والميزان المتعارف في هذه الحياة، ومن جانب آخر لم يكن للأعمال البشرية وزن، وخفة وثقل يمكن أن يُعرَف بالميزان، لهذا لابدّ من حلّ هذه المشكلة عن طريق فكرة تجسم الأعمال، أو عن طريق أن الأشخاص أنفسهم يوزنون بدل أعمالهم في ذلك اليوم.
حتى أنّه روي عن "عبيد بن عمير" أنه قال: "يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة" إِشارة إِلى أن أُولئك الأشخاص كانوا في الظاهر أصحاب شخصيات كبيرة، وأمّا في الباطن فلم يكونوا بشيء (6)ولكن لو تركنا مسألة المقارنة والمقايسة بين الحياة في ذلك العالم والحياة في هذا العالم، وعلمنا بأن كل شيء في تلك الحياة يختلف عمّا عليه في حياتنا هذه، تماماً مثلما تختلف أوضاع الفترة الجنينية عن أوضاع الحياة الدنيا، وعلمنا - أيضاً - أنّه ليس من الصحيح أن نبحث - في فهم معاني الألفاظ - عن المصاديق الحاضرة والمعينة دائماً، بل لابدّ أن ندرس المفاهيم من حيث النتائج، اتضحت وانحلت مشكلة "وزن الأعمال في يوم القيامة".
وتوضيح الأمر هو: أننا لو كنا نتلفظ فيما مضى من الزمن بلفظ المصباح كان يتبادر إِلى ذهننا صورة وعاء خاص فيه شيء من الزيت، ونصب فيه فتيل من القطن.
وربّما أيضاً تصوَّرنا زجاجة وضعت على النّار لتحفظها من الإِنطفاء بسبب الرياح، على حين يتبادر من لفظ المصباح إِلى ذهننا اليوم جهاز خاص لا مكان فيه للزيت، ولا للفتيل أمّا ما يجمع بين مصباح الامس ومصباح اليوم، هو الهدف من المصباح والنتيجة المتوخاة أو المتحصلة منه، يعني الأداة التي نزيل الظلمة.
والأمر في قضيّة "الميزان" على هذا الغرار، بل وفي هذه الحياة ذاتها نرى كيف أن الموازين تطوّرت مع مرور الزمن تطوراً كبيراً، حتى أنه بات يُطلق لفظ الميزان على وسائل التوزين الأُخرى، مثل مقياس الحرارة، ومقياس سرعة الهواء وامثال ذلك.
اذن، فالمسلّم هو أن أعمال الإِنسان توزن في يوم القيامة بأداة خاصّة لا بواسطة موازين مثل موازين الدنيا، ويمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود الأنبياء والأئمّة والصالحين، وهذا ما يستفاد - أيضاً - من الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام).
ففي بحار الأنوار ورد عن الإِمام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: (وَنَضَعُ المَوازينَ القسط) أنه قال: "والموازين الأنبياء، والأوصياء، ومن الخلق من يَدخُل الجنّة بغير حساب" (7).
وجاء في رواية أُخرى: إِنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته (عليهم السلام) هم الموازين (8).
ونقرأ في إحدى زيارات الإِمام أميرالمؤمنين المطلقة: السلام على ميزان الأعمال.
وفي الحقيقة أن الرجال والنساء النموذجيين في العالم هم مقاييس لتقييم أعمال العباد، فكل من شابههم كان له وزن بمقدار مشابهته لهم، ومن بعد عنهم كان خفيف الوزن، أو فاقد الوزن من الأساس.
بل إِنّ أولياء الله في هذا العالم هم أيضاً مقاييس للوزن والتقييم، ولكن حيث أنّ أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حجب الإِبهام والغموض.
تبرز في يوم القيامة بمقتضى قوله تعالى: (وبرزوا لله الواحد القهار) (9) وتنكشف هذه الحقائق وتنجلي للعيان.
ومن هنا يتّضح لماذا جاء لفظ الميزان في الآية بصيغة الجمع: "الموازين" لأنّ أولياء الله الذين يوزَن بهم الأعمال متعددون.
ثمّ إِن هناك احتمالا آخر أيضاً، وهو أن كل واحد منهم كان متميزاً في صفة معينة، وعلى هذا يكون كل واحد منهم ميزاناً للتقييم في إِحدى الصفات والأعمال البشرية، وحيث أن أعمال البشر وصفاتهم مختلفة، لهذا يجب أن تكون المعايير والمقاييس متعددة.
ومن هنا أيضاً يتّضح أنّ ما جاء في بعض الرّوايات والأخبار، مثل ما ورد عن الإِمام الصادق (ع) حيث سألوه: ما معنى الميزان؟ قال: "العدل" لا ينافي ما ذكرناه، لأنّ أولياء الله، والرجال والنساء النموذجيين في هذا العالم هم مظاهر للعدل من حيث الفكر، والعدل من حيث العقيدة، والعدل من حيث الصفات والأعمال (تأملوا) (10).
ثمّ إِنه تعالى يقولفي المقطع الآخر من الآية: (فمن ثقلت موازينُه فأُولئك همُ الصالحون، ومن خفّت موازينه فأُولئك الذِين خَسروا أنفسَهم بِما كانوا بآياتنا يَظلمون).
إِنّ من البديهي أنّ المراد من الخفّة والثقل في الموازين ليس هو خفة وثقل نفس الميزان، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين، وتُقاس بتلك المقاييس.
ثمّ إِنّ في التعبير بجملة "خسروا أنفسهم" إِشارة لطيفة إِلى هذه الحقيقة، وهي أن هؤلاء قد أصيبوا بأكبر الخسارات، لأنّ الإِنسان قد يخسر ماله، أو منصبه، ولكنّه قد يخسر أصل وجوده من دون أن يحصل على شيء في مقابل ذلك، وتلك هي الخسارة الكبرى، والضرر الأعظم.
إنّ في التعبير بـ"كانوا بآياتنا يظلمون" في آخر الآية إشارة إِلى أن مثل هؤلاء لم يظلموا أنفسهم فحسب، بل ظلموا - كذا - البرامج الإِلهية الهادية، لأنّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سبلا للهداية ووسائل للنجاة، ولو أنّ أحداً تجاهلها، ولم يكترث بها، فلم يحصل منها هذا الأثر، كان ظالماً لها.
وقد جاء في بعض الرّوايات والأخبار أنّ المراد من الآيات هنا هم أئمّة الهدى (عليهم السلام)، على أن هذا النمط من التّفسير - كما أسلفنا مراراً - لا يعني حصر مفهوم الآية فيهم، بل هم المصاديق الأتمّ والأظهر للآيات الإِلهية.
هذا، وفسّر بعض المفسّرين الظلم في الآية بالكفر والإِنكار، وهذا المعنى ليس بعيداً عن مفهوم الظلم، إذ قد ورد الظلم في بعض الآيات القرآنية الأخرى بهذا المعنى.
1- تفسير نور الثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 4.
2- المصدر السابق.
3- تفسير "مجمع البيان"، وتفسير "التبيان" عن معنى القصة في ذيل الآية الحاضرة ورد البحث أعلاه في.
4- الرحمان، 39 و41.
5- بناء على هذا يكون الوزن هنا بمعناه المصدري وهو مبتدأ و"الحق" خبره، وإن أُعطيت إحتمالات في تركيب الجملة الحاضرة ولكن ما قلناه أقرب من الجميع.
6- رويت هذه الرواية من عبيد بن عمير في تفسير "مجمع البيان" وتفسير "الطبري" وظاهر العبارة يوحي بأن الكلام هو لعبيد وليس لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
7- بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، ج 7، ص 252 و251.
8- المصدر السابق.
9- إِبراهيم، 48.
10- تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 5.