الآيات 1 - 3

﴿الـمـص1 كِتَـبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ2 اتَّبِعُوا مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ3﴾

التّفسير

في مطلع هذه السّورة نواجه مرّة أُخرى "الحروف المقطَّعة" وهي هنا عبارة عن: الألف واللام والميم، والصاد.

وقد سبقت منّا أبحاثٌ مفصّلة عند تفسير هذه الحروف في مطلع سورة "البقرة" وكذا: "آل عمران".

وهنا نلفت النظَر إِلى تفسير آخر من التفاسير المطروحة في هذا الصعيد استكمالا للبحث وهو: أنّه يمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب إنتباه المستمعين، ودعوتهم إِلى السكوت والإِصغاء، لأنَّ وجود هذه الحروف في مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب، ومن شأنها أن تثير في العربي حبّ الاستطلاع، وتدعوه إِلى متابعة الكلام إِلى نهايته.

ومن الإِتفاق أنّ غالب السور المبدوءة بالحروف المقطّعة هي السور التي نزلت في مكّة، ونحن نعلم أن المسلمين في مكّة كانوا أقليّة، وكان أعداؤهم وخصومهم خصوماً ألدّاء اشتد عنادهم إِلى درجة أنّهم ما كانوا على استعداد حتى لاستماع كلام رسول الله (ص)، بل ربّما أثاروا ضجيجاً، ورَفَعوا الأصوات في وجه رسول الله (ص) عند قراءته للآيات القرآنية ليضيع في زحمتها وخضمّها نداؤهُ (ص)، وهو ما أشارت إِليه بعض الآيات (مثل الآية 26 سورة فصلت - السجدة).

كما أننا نقرأ في بعض الرّوايات والأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ هذه الحروف رموز وإِشارت إِلى أسماء الله، فـ: "الـمص" في السورة المبحوثة مثلا إِشارة إِلى جملة: أنا الله المقتدر الصادق.

وبهذا الطريقيكون كل واحد من الحروف الأربعة صورة مختصرة عن أحد أسماء الله تعالى.

ثمّ إِنّ موضوع إِحلال الصياغات المختصرة محلّ الصياغات المفصَّلة للكلمات كان أمراً رائجاً من قديم الزمان، وإِن حصل مثل هذا في عصرنا أيضاً بشكل أوسع، حيث اختصِرت الكثير من العبارات الطويلة، وكذا أسامي المؤسسات أو الهيئات في كلمة قصيرة أو أحرف معدودة.

على أن ثمّة نقطةً تستحقُ التنويه بها هنا، وهي أنّ التفاسير والتحاليل المختلفة عن "الحروف المقطعّة" لا تتنافى ولا تتناقض فيما بينها، ويمكن أن تكون جميع التفاسير بطوناً مختلفة من بطون القرآن.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة: (كتابٌ أُنزِلَ إِلَيكَ فلا يكن في صدرك حَرَجٌ منه).

و"الحرج" في اللغة يعني الشعور بالضيق وأي نوع من أنواع المعاناة، والحرج في الأصل يعني مجتمع الشجر الملتفّ أوّلا ثمّ المنتشر، وهو يُطلق على كل نوع من أنواع الضيق.

إنَّ العبارة الحاضرة تسلّي النّبي (ص) وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعر (ص) بأيّ ضيق وحرج، لا من ناحية ثقل الرسالة الملقاة على عاتقه، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته، ولا من ناحية النتيجة المتوقعة من تبليغه ودعوته.

هذا ويمكن إِدراك المشكلات التي كانت تعرقل حركة النّبي (ص) إِدراكاً كاملا إِذا عرفنا أن هذه السورة من السور المكّية، ونحن وإِن كنّا نعجز عن تصوّر جميع الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة رسول الله (ص) وصحبه في المحيط المكي، وفي مطلع الدّعوة الإِسلامية، ولكن مع الإِلتفات إِلى حقيقة أن النّبي (ص) كان عليه أن يقوم بنهضة ثورية في جميع المجالات والأصعدة في تلك البيئة المتخلفة جداً وفي مدّة قصيرة، يمكن أن نتصور على نحو الاجمال أبعاد وأنواع الصعاب التي كانت تنتظره.

وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يعمد الله سبحانه إِلى تسلية النّبي وتطمينه بأن لا يشعر بالضيق والحرج، وأنّ يطمئنَّ إِلى نتيجة جهوده.

ثمّ يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أن الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إِنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة، وتذكير المؤمنين الصادقين، إِذا يقول: (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) (1).

هذا ومجيء قضية "الإِنذار" في صورة الأمر العام الموجّه للجميع، واختصاص "التذكير" بالمؤمنين خاصّة، إِنّما هو لأجل أنَّ الدعوة إِلى الحق، ومكافحة الإِنحرافات يجب أن تتمّ بصورة عامّة وشاملة، ولكن من الواضح أنّ المؤمنين هم وحدهم الذين ينتفعون بهذه الدعوة، أُولئك الذين تتوفر لديهم أرضيات مستعدّة لقبول الحق، وقد أبعدوا عن أنفسهم روح العناد واللجاج وسلّموا أمام الحقائق.

وقد جاءت هذه العبارة بعينها في مطلع سورة البقرة إِذا يقول تعالى: (ذلك الكتاب لا ريبَ فيه هدىً للمتقين) (وللمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية 2 من سورة الحمد).

ثمّ إِنّه سبحانه يوجه خطابه إِلى عامّة الناس يقول: (اتبعوا ما أُنزل إِليكم من ربّكم) وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول الله (ص) ومهمّته ورسالته، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم تجاه الرسالة.

وللتأكيد يضيف سبحانه قائلا: (ولا تتبعوا من دونه أولياء) فلا تتبعوا غير أوامر الله، ولا تختاروا ولياً غير الله.

وحيث إِنّ الخاضعين للحق والمذكرين قليلون، لذا قال في ختام الآية: (قليلا ما تذكّرون).

ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإِنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إمّا القبول بولاية الله وقيادته، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين، فإِذا سلك الطريق الأوّل كان الله وليَّه، وأمّا إِذا دخل تحت ولاية الآخرين فإِن عليه - حينئذ - أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب، وأن يختار ربّاً جديداً.

وكلمة "الأولياء" التي هي جميع "ولي" إِشارة إِلى هذا المعنى.


1- وعلى هذا الأساس فإن جملة "لتنذر" تتعلق بـ "أنزل" وليس بجملة "فلا يكن" ولعل جعل هذه الجملة (أي جملة لتنذر) بعد جملة "فلا يكن في صدرك حرج" لأَجل أنّه يجب أوّلا إعداد النّبي في طريق الدعوة، ثمّ إقتراح الهدف وهو الإِنذار عليه (تأمل جيداً).