الآيات 116 - 118
﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَـعِيَسى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخُذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَـنَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبِدُوا اللهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّادُمْتُ فِيهُمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ117 إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزَيزُ الْحَكِيمُ118﴾
التّفسير
براءة المسيح من شرك أتباعه:
هذه الآيات تشير إِلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ: (هذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم) ولا شك أنّه يوم القيامة.
ثمّ أنّ جملة (فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم) دليل آخر على أنّ الحوار قد جرى بعد عهد نبوة المسيح (ع)، والفعل "قال" الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا
إِليه، لأنّ القرآن مليء بذكر أُمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي، وهو إِشارة إِلى أنّ وقوعه حتمي، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا، فيستعمل له صيغة الماضي.
على كل حال تقول الآية الاُولى: (وإِذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إِلهين من دون الله).
لا ريب أنّ المسيح (ع) لم يقل شيئاً كهذا، بل دعا إِلى التوحيد وعبادة الله،أنّ القصد من هذا الإِستفهام هو إِستنطاقه أمام أُمّته وبيان إِدانتها.
فيجيب المسيح (ع) بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال:
1 - أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة: (قال سبحانك).
2 - ثمّ يقول: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.
فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.
3 - ثمّ يستند إِلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيداً لبراءته فيقول: (إِن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إِنّك أنت علام الغيوب) (1).
4 - (ما قلت لهم إِلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ربّي وربَّكم)، لا أكثر من ذلك.
5 - (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) (2).
أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم، فكنت الرقيب والشاهد عليهم، ولكن بعد أن رفعتني إِليك، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.
6 - (إِن تعذبهم فإنّهم عبادك وإِن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)، أي على كل حال فالأمر أمرك والإِرادة إِرادتك، إِن شئت أن تعاقبهم على إِنحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك، وإِن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم، فلا عفوك دليل ضعف، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.
هنا يتبادر إِلى الذهن سؤالان:
1 - هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إِنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة: (الإِله الأب) و (الإِله الابن) و (روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإِله الأب) و (الإِله الابن) وهو ليس (مريم).
للإِجابة على هذا السؤال نقول: صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة، كالوثنيين الذى لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.
وهناك فرق بين "الله" بمعنى الخالق، والـ"إله" بمعنى المعبود، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة "الله".
يقول أحد المفسّرين: إِنّ المسيحيين على إختلاف فرقهم، وإن لم يطلقوا كلمة (إِله) أو معبود على مريم، واعتبروها أم الإِله لا غير، فهم في الواقع يقدمون لها طقوس الدعاء والعبادة، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه، ثمّ يضيف قائلاً: قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).
وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من المجلة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أُصول عبادة مريم حتى في العهد القديم، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم (3).
وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.
2 - السؤال الثّاني: كيف يتحدث المسيح (ع) عن مشركي أُمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول: (وإِن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم) ؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟
في الجواب نقول: لو كان قصد عيسى (ع) هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة، ولكنّنا نراه يقول (فإنّك أنت العزيز الحكيم) من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله، إِن شاء عفا، وإِن شاء عاقب، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إِلى حكمة.
ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.
1- إطلاق كلمة "نفس" على الله لا يعني الروح، فمن معاني النفس الذات.
2- في معنى "توفى" وكونها لا تعني موت المسيح(عليه السلام) أُنظر ذيل الآية (55) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني.
3- تفسير "المنار"، ج 7، ص 263.