الآيات 97 - 99
﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَـماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَـئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ97 اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ98 مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَـغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ99﴾
التّفسير
بعد الكلام في الآيات السابقة على تحريم الصيد في حال الإِحرام، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إِلى أهمية "مكّة" وأثرها في بناء حياة المسلمين الإِجتماعية، فيقول أوّلا: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس).
فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس ومركز لتجمع القلوب حوله، ومؤتمر عظيم لتوثيق الرّوابط المختلفة، فهم في ظل هذا البيت المقدس وفي مركزيته ومعنويته المستمدة من جذور تاريخية عميقة يستطيعون إِصلاح الكثير ممّا يستوجب الإِصلاح والترميم في حياتهم، وإِقامة سعادتهم على قواعده المتينة، لذلك فقد وصف هذا البيت في سورة آل عمران (الآية 96) : (إِنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين).
في الحقيقة إنّ المسلمين يستطيعون - إِنطلاقاً من المفهوم الواسع لقوله: (قياماً للناس) - أن يصلحوا كل أُمورهم بالركون إِلى هذا البيت وفي إطار تعاليم الحج البناءة.
ولما كانت هذه المناسك يجب أنّ تجري في جو آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إِلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر التي تمنع فيها الحرب مطلقاً) وقالت: (والشهر الحرام) (1) كما أشارت إِلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمن جانباً من إِحتياجات الحاج للقيام بمناسكه، فقالت: (والهدي والقلائد).
ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك بشأن حرم مكّة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية: (ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأنّ الله بكل شيء عليم).
بناءاً على ما مرّ بنا في تفسير هذه الآية يتّضح الإِرتباط بين بدايتها ونهايتها، إِذ أنّ هذه الأحكام التشريعية لا يستطيع أن ينظمها إِلاّ من كان عليماً بأعماق القوانين التكوينية، فالذي لا علم له بدقائق شؤون السماء والأرض وبما استقرّ في روح الإِنسان وجسمه عند خلقه، لا تكون له القدرة على تقرير أحكام كهذه، فالقانون الصحيح السليم هو ذاك الذي ينسجم مع قانون الخلق والفطرة.
الآية التّالية تؤكّد تلك التشريعات، وتحث الناس على إِتباعها وتهدد المخالفين والعاصين فتقول: (إِعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ اللّه غفور رحيم).
ولعل تقديم (شديد العقاب) على (غفور رحيم) إِشارة إِلى أنّ عقاب الله الشديد يمكن إطفاؤه بماء التوبة والدخول في رحمة الله وغفرانه.
ومرّة أُخرى تؤكّد الآية على أنّ الناس هم المسؤولون عن أعمالهم، وأنّ النّبي مسؤول عن تبليغ الرّسالة لا غير (وما على الرّسول إِلاّ البلاغ) وفي الوقت نفسه: (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون).
أهمية الكعبة:
إِنّ "الكعبة" - التي ذكرت في هذه الآية وفي الآيات السابقة مرّتين - من مادة "كعب" أي بروز خلف القدم، ثمّ أطلق على كل بروز، والمكعب كذلك لأنّه بارز من جهاته الأربع، والكاعب (وجمعها كواعب) هي الأنثى التي برز صدرها.
والظاهر أنّ تسمية بيت الله بالكعبة يرجع أيضاً، إِلى ارتفاعه الظاهري وبروزه، كما هو رمز لإِرتفاع مقامه وعظمة مكانته.
إِنّ للكعبة تاريخاً عريقاً حافلا بالحوادث والوقائع، وكلّ هذه الحوادث تنطلق من عظمتها ومكانتها المهمّة.
أهمية الكعبة تبلغ حداً بحيث أنّ الأحاديث الإِسلامية تعتبر هدمها في مصاف قتل النّبي والإِمام والنظر إِليها عبادة، والطواف بها من أفضل الأعمال، وقد جاء في رواية عن الإِمام الباقر (ع) أنّه قال: "لا ينبغي لأحد أن يرفع بناءه فوق الكعبة" (2).
طبيعي أنّ أهمية الكعبة واحترامها لم يأتيا من بنائها، فقد قال أميرالمؤمنين علي (ع) في الخطبة القاصعة: "ألا ترون أنّ الله، سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إِلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجلعها بيته الحرام (الذي جعله للنّاس قياماً) ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً..." (3).
أهمية مكانة الكعبة عند الله تعود إِلى أنّها أقدم مراكز العبادة والتوحيد، ونقطة تجتذب إِليها أنظار الشعوب والأقوام المختلفة.
1- مرّ ذكر الأشهر الحرم في تفسير الآية (194) من سورة البقرة، ارجع إِلى المجلد الثّاني من هذا التّفسير.
2- "سفينة البحار"، ج 2، ص 482.
3- "نهج البلاغة"، الخطبة القاصعة، رقم 192.