الآيات 87 - 89
﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتُحَرِّمُوا طَيِّبَـتِ مَآ أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ87 وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَـلا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ88 لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـنِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمْ الاَْيْمَـنَ فَكَفَّـرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْكِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـثَةِ أَيَّام ذَلِكَ كَفَّـرَةُ أَيْمَـنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَـنَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ءَايَـتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ89﴾
سبب النّزول
لا تتجاوزوا الحدود!
ثمّة روايات متعددة وردت بشأن نزول هذه الآيات منها: في أحد الأيّام أخذ رسول اللّه (ص) يصف بعض ما يجري يوم القيامة وحال الناس في تلك المحكمة الإِلهية العظمى، فهزّ الوصف نفوس الناس وراح بعضهم يبكي، وعلى أثر ذلك عزم بعض أتباع رسول الله (ص) على ترك بعض لذائذ الحياة ورفاهها، وأن ينصرف
بدلا من ذلك إِلى العبادة، فأقسم أميرالمؤمنين (ع) أن ينام من الليل أقلّه ويصرفه في العبادة، وأقسم بلال أن يصوم أيّامه كلّها، وأقسم عثمان بن مظعون أن يترك إِتيان زوجته وأن ينقطع إِلى العبادة.
جاءت زوجة عثمان بن مظعون - وكانت إمرأة جميلة - يوماً إِلى عائشة فعجبت عائشة من حالها فقالت: ما لي أراك متعطلة؟
فقالت: لمن أتزين؟ فو اللّه ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فانّه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا، فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فجاء إِليهم وأخبرهم أن ذاك خلاف سنّته وقال: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال:
"ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أمّا إِنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا إِتّخاذ الصوامع، وإِنّ سياحة أُمّتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم...".
فقام الذين كانوا قد أقسموا على ترك تلك الأُمور وقالوا: يا رسول الله، لقد أقسمنا على ذلك، فماذا نفعل؟ فنزلت الآيات المذكورة جواباً لهم (1).
لابدّ من القول بأنّ قَسَم البعض مثل قسم عثمان بن مظعون لم يكن مشروعاً لما فيه من غمط لحقوق زوجته، ولكن فيما يتعلق بقسم الإِمام علي (ع) بإحياء الليل بالعبادة، فإنّه كان أمراً مباحاً، ولكن المستفاد من الآيات هو أنّ الاُولى أن لا يكون ذلك بصورة مستمرة ودائمة، ولا يتعارض مع عصمة علي (ع)، لأننا نقرأ بما يشبه ذلك بالنسبة لرسول الله (ص) في الآية الاُولى من سورة التحريم: (يا أيّها النّبي لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك).
التّفسير
القسم وكفارته:
في هذه الآية والآيات التّالية لها مجموعة من الأحكام الإِسلامية المهمّة، بعضها يشرع لأوّل مرّة، وبعض آخر جاء توكيداً وتوضيحاً لأحكام سابقة وردت في آيات اُخرى من القرآن، لأنّ هذه السورة - كما سبق أن قلنا - نزلت في أواخر عمر رسول الله (ص) فكان لابدّ من التأكيد فيها على أحكام اسلامية مختلفة.
في الآية الاُولى إِشارة إِلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإِلهية، فنهاهم الله عن ذلك قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) (2).
إِنّ ذكر هذا الحكم، مع أخذ سبب النّزول بنظر الإِعتبار، قد يكون إِشارة إِلى أنّه إِذا كان في الآيات السابقة شيء من الثناء على فريق من علماء المسيحية ورهبانها لتعاطفهم مع الحقّ والتسليم له، لا لتركهم الدنيا وتحريم الطيبات، وليس للمسلمين أن يقتبسوا منهم ذلك، فبذكر هذا الحكم يعلن الإِسلام صراحة إِستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون (ثمّة شرح أوفى لهذا الموضوع في تفسير الآية (27) من سورة الحديد: (... ورهبانية ابتدعوها).
ثمّ لتوكيد هذ الأمر تنهي الآية عن تجاوز الحدود، لأنّ الله لا يحبّ الذين يفعلون ذلك (ولا تعتدوا إِنّ الله لا يحبّ المعتدين).
وفي الآية التي تليها آخر للأمر، إِلاّ أنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم، وفي هذه الآية أمر بالإِنتفاع المشروع من الهبات الإِلهية، فيقول: (وكلوا ممّا رزقكم الله حلالا طيباً).
والشرط الوحيد لذلك هو الإِعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي أنّ إِيمانكم بالله يوجب عليكم إحترام أوامره في التمتع وفي الإِعتدال والتقوى.
هناك إِحتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّ الأمر بالتقوى يعني إِن تحريم المباحات والطيبات لا يأتلف مع درجات التقوى المتكاملة الرفيعة، فالتقوى تستلزم أن لا يتجاوز الإِنسان حد الإِعتدال من جميع الجهات.
والآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإِنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام، ويمكن القول أنّ القسم نوعان:
فالاُولى: هو القسم اللغو، فيقول: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).
في تفسير الآية (225) من سورة البقرة - التي تتناول موضوع عدم وجود عقاب على اللغو في الأيمان - قلنا: إِنّ المقصود باللغوّ في الأيمان - كما يقول المفسّرون والفقهاء - الأيمان التي ليس لها هدف معين ولا تصدر عن وعي وعزم إِرادي، وإِنما هي قسم يحلف به المرء من غير تمعن في الأمر فيقول: والله وبالله، أو لا والله ولا بالله، أو إِنّه في حالة من الغضب والهياج يقسم دون وعي.
ويقول بعضهم: إنّ الإِنسان إِذا كان واثقاً من أمر فاقسم به، ثمّ ظهر أنّه قد أخطأ، فقسمه - يعتبر أيضاً - من نوع اللغو في الأيمان، كأن يتيقن أحدهم من خيانة زوجته على أثر سعاية بعض الناس ووشايتهم، فيقسم على طلاقها، ثمّ يتّضح له أن ما سمعه بحقّها كان كذباً وافتراء، فإِن قسمه ذاك لا إِعتبار له، إِننا نعلم أيضاً أنّه بالإِضافة إِلى توفر القصد والإِرادة والعزم في القسم الجاد، يجب أن يكون محتواه غير مكروه وغير محرم، وعليه إِذا أقسم أحدهم مختاراً أن يرتكب عملا محرماً أو مكروهاً، فإن قسمه لا قيمة له ولا يلزمه الوفاء به، ويحتمل أن يكون مفهوم "اللغو" في هذه الآية مفهوماً واسعاً يشمل هذا النوع من الأيمان أيضاً.
والقسم الثّاني: هو القَسَم الجاد الإِرادي الذي قرره المرء بوعي منه، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه الله إِذا لم يف به الإِنسان: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان).
كلمة "العقد" تعني في الأصل - كما قلنا في بداية سورة المائدة - جمع أطراف الشيء جمعاً محكماً.
ومنه تسمية ربط طرفي الحبل بـ"العقدة" ثمّ انتقل هذا المعنى إِلى الأُمور المعنوية، فأطلق على كل إِتفاق وعهد اسم العقد، فعقد الأيمان - كما في الآية - يعني التعهد بكل جد وعزم وتصميم على أمر ما بموجب القسم.
بديهي أن الجد وحده في القسم لا يكفي لصحته، بل لابدّ أيضاً من صحة محتواه - كما قلنا - وأن يكون أمراً مباحاً في الأقل، كما لابدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم الله لا قيمة له.
وعليه إِذا أقسم إِمرؤ بالله أن يعمل عملا محموداً، أو مباحاً على الأقل، فيجب عليه أن يعمل بقسمه، فإن لم يفعل، فعليه كفارة التخلف.
وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة، وهي واحدة من ثلاثة:
الاُولى: (فكفارته إِطعام عشرة مساكين)، ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إِلى أي نوع من الطعام الدنيء والقليل، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة: (من أوسط ما تطعمون أهليكم).
ظاهر الآية يدل على النوعية المتوسطة، ولكن يحتمل أنّه إِشارة إِلى الكمية والكيفية كليهما، فقد جاء عن الإِمام الصادق (ع) أنّه الحد الوسط من الكيفية، وعن الإِمام الباقر (ع) أنّه الحدّ الوسط من الكمية، الأمر الذي يدل على أن المطلوب هو الحد الوسط من كليهما (3).
ولا حاجة للقول بأنّ "الحدّ الوسط" سواء في الكمية أو الكيفية، يختلف بإختلاف المدن والقرى والأزمنه.
وقد إِحتمل بعضهم تفسيراً آخر للأوسط، وهو أنّه يعني الجيد الرفيع، وهما من معاني "الأوسط" كما نقرأ في الآية (28) من سورة القلم: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون).
الثّانية: (أو كسوتهم).
من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطي الجسم حسب العادة، لذلك ورد في بعض الرّوايات أنّ الإِمام الصادق (ع) بيّن أنّ المقصود بالكسوة في هذه الآية قطعتا اللباس (الثوب والسروال)، أمّا الرواية المنقولة عن الإِمام الباقر (ع) بأن ثوباً واحداً يكفي، فربّما تكون إِشارة إِلى الثوب العربي الطويل المعروف والذي يكسو الجسم كلّه، أمّا بشأن النسوة فلا شك أنّ ثوباً واحداً لا يكفي، بل لابدّ من غطاء للرأس والرقبة، وهذا هو الحدّ الأدنى لكسوة المرأة لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضاً بإختلاف الفصول (4) والأمكنة والأزمنة.
أمّا من حيث الكيفية، وهل يكفي الحد الأدنى، أم ينبغي مراعاة الحد الأوسط؟ فإن للمفسرين رأيين في ذلك:
1 - إن كل كسوة تكفي إِذا أخذت الآية على إِطلاقها.
2 - إِنّه ما دمنا قد راعينا الحدّ الأوسط في الإِطعام، فلابدّ أن نراعي هذا الحد في الكساء أيضاً، غير أن الرأي الأوّل أكثر إِنسجاماً مع إِطلاق الآية.
الثّالثة: (أو تحرير رقبة).
ثمّة كلام بين الفقهاء والمفسّرين عمّا إِذا كانت الرقبة المحررة يجب أن تكون مسلمة، أو أنّ عتق أي عبد يكفي؟ لذلك ينبغي الرجوع إِلى الكتب الفقهية في ذلك، وإِن كانت الآية مطلقة في الظاهر.
وهذا ما يدل على أنّ الإِسلام يتوسل بطرق مختلفة لتحرير العبيد، أمّا في الوقت الحاضر حيث يبدو أنّه لا وجود للرق، فإنّ على المسلمين أن يختاروا واحدة من الكفارتين المتقدمتين.
ليس ثمّة شك في أنّ هذه المواضيع الثلاثة متباينة من حيث قيمتها تبايناً كبيراً، ولعل القصد من هذا التباين هو حرية الإِنسان في إِختيار الكفارة التي تناسبه وتناسب إِمكاناته المادية.
ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام).
إِذن، فصيام ثلاثة أيّام مقصور على الذين لا قدرة لهم على تحقيق أي من الكفارات الثلاث السابقة، ثمّ يؤكّد القول ثانية: (ذلك كفارة أيمانكم إِذا حلفتم).
ومع ذلك، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قَسَم صحيح أقسمه، يقول تعالى: (واحفظوا أيمانكم).
وبعبارة أُخرى: إنّ الإِلتزام بالقَسَم واجب تكليفي، وعدم تنفيذه حرام، والكفارة تأتي بعد الرجوع عن القَسَم.
في ختام الآيات يبيّن القرآن أنّ هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون).
1- ما ذكر أعلاه في سبب النّزول، قسم منه مأخوذ من تفسير علي بن إبراهيم، وقسم من تفسير مجمع البيان وتفاسير أُخرى.
2- في معنى "الحلال" و"الطيب" أنظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير.
3- "نور الثقلين"، ج 1، ص 666 وتفسير "البرهان"، ج 1، ص 496.
4- ثمّة حديث بهذا الشأن عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أو الإِمام الصادق(عليه السلام) أنظر تفسير "البرهان"، ج 1، ص 496.