الآيات 78 - 80

﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ78 كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَر فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ79 تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَروُا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـلِدُونَ80﴾

التّفسير

تشير هذه الآيات إِلى المصير المشؤوم الذي انتهى إِليه الكافرون السابقون، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتبعونهم إِتباعاً أعمى، فيقول: (لعن الذين كفروا من بني إِسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم).

أمّا لماذا ورد اسما هذين النّبيين دون غيرهما، فللمفسّرين في ذلك أقوال، فمن قائل: إنّ السبب هو أنّهما كانا أشهر الأنبياء بعد موسى (ع)، وقيل: إنّ السبب هو أنّ كثيراً من أهل الكتاب كانوا يفخرون بأنّهم من نسل داود.

وتذكر الآية أوّلا أنّ داود كان يلعن السائرين على طريق الكفر والطغيان.

ويقول بعض: إنّ في الآية إِشارة إِلى حادثتين تأريخيتين أثارتا غضب هذين النّبيين، فلعنا جمعاً من بني إِسرائيل، فداود قد لعن سكان مدينة (ايله) الساحلية المعروفين باسم (أصحاب السبت)، وسيأتي تفصيل تأريخهم في سورة الأعراف، وعيسى (ع) لعن جمعاً من اتباعه ممن أصروا على اتباع طريق الإِنكار والمعارضة حتى بعد نزول المائدة من السماء.

على كل حال، فالآية تشير إِلى أنّ مجرّد كون الإِنسان من بني إِسرائيل، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما، لا يكون مدعاة لنجاته، بل أنّ هذين النّبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).

الآية التّالية تؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبداً بأنّ عليهم يتحملوا أية مسؤولية اجتماعية، ولا هم كانوا يتناهون عن المنكر، بل أنّ بعضاً من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجعون العصاة عملياً (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة: (لبئس ما كانوا يفعلون).

هنالك في تفسير هذه الآية روايات منقولة عن رسول الله (ص) وعن أهل البيت (عليهم السلام) ذات دلالات تعليمية.

ففي حديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحقّ اطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم" (1).

وفي حديث آخر عن الامام الصّادق (ع) في تفسير (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) أنّه قال: "أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوهم وأنسوا بهم" (2)

الآية الثّالثة تشير إِلى معصية أُخرى من معاصيهم: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا).

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي، وكانوا يشجعون الأعمال والأفكار الخاطئة، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدموها ليوم المعاد، تلك الأعمال التي استوجبت غضب الله وعذابه الدائم: (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون).

أمّا من هم المقصودون بتعبير (الذين كفروا) فإنّ بعضاً يقول: إِنّهم كانوا مشركي مكّة الذين صادقوا اليهود.

ويرى بعض أنّهم الجبارون والظالمون الذين كان اليهود قديماً يمدون إِليهم يد الصداقة، وهذا الرأي يؤكّده الحديث المنقول عن الإِمام الباقر (ع) إِذ قال: "يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم" (3).

وليس ثمّة ما يمنع أن تشمل الآية كلا المعنيين، بل وتكون أعم منهما أيضاً.


1- تفسير (مجمع البيان) لهذه الآية، وفي تفسير القرطبي، ج 4، ص 2250 حديث مشابه منقول عن الترمذي.

2- تفسير البرهان: ج1، ص492، وتفسير نور الثقلين: ج1، ص661.

3- (مجمع البيان) في تفسير الآية المذكورة.