الآية 67

﴿يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـفِرِينَ67﴾

التّفسير

اختيار الخليفة مرحلة إنتهاء الرسالة:

إنّ لهذه الآية نَفَساً خاصاً يميزها عمّا قبلها وعّما بعدها من آيات، إنّها تتوجه بالخطاب إِلى رسول الله (ص) وحده وتبيّن له واجبة، فهي تبدأ بمخاطبة الرّسول: (يا أيّها الرّسول) وتأمره بكل جلاء ووضوح أن (بلغ ما أُنزل إِليك من ربِّك) (1).

ثمّ لكي يكون التوكيد أشد وأقوى - تحذره وتقول: (وإِن لم تفعل فما بلّغت رسالته).

ثمّ تطمئن الآية الرّسول (ص) - وكأن أمراً يقلقه - وتطلب منه أن يهدىء من روعه وأن لا يخشى الناس: فيقول له: (والله يعصمك من النّاس).

وفي ختام الآية إِنذار وتهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة الخاصّة ويكفرون بها عناداً، فتقول: (إِنّ الله لا يهدي القوم الكافرين).

أسلوب هذه الآية، ولحنها الخاص، وتكرر توكيداتها، وكذلك ابتداؤها بمخاطبة الرّسول (يا أيّها الرّسول) التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرّتين، وتهديده بأنّ عدم تبليغ هذه الرسالة الخاصّة إِنّما هو تقصير - وهذا لم يرد إِلاّ في هذه الآية وحدَها - كل ذلك يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جداً بحيث أن عدم تبليغه يعتبر عدمَ تبليغ للرسالة كلها.

لقد كان لهذا الأمر معارضون أشداء إِلى درجة أنّ الرّسول (ص) كان قلقاً لخشتيه من أنّ تلك المعارضة قد تثير بعض المشاكل بوجه الإِسلام والمسلمين، ولهذا يطمئنه الله تعالى من هذه الناحية.

هنا يتبادر إِلى الذهن السؤال التالي - مع الأخذ بنظر الإِعتبار تأريخ نزول هذه الآية - وهو قطعاً في أواخر حياة الرّسول الأكرم (ص) - : تُرى ما هذا الموضوع المهم الذي يأمر الله رسولَه - مؤكّداً - أن يبلّغه للناس؟

هل هو ممّا يخص التوحيد والشرك وتحطيم الأصنام، وهو ما تمّ حله للنبي (ص) وللمسلمين قبل ذلك بسنوات؟

أم هو ممّا يتعلق بالأحكام والقوانين الإِسلامية، مع أنّ أهمها كان قد سبق نزوله حتى ذلك الوقت؟

أم هو الوقوف بوجه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع أنّنا نعرف أنّ هذا لم يعد مشكلة بعد الإِنتهاء من حوادث بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر وفدك ونجران؟

أم كان أمراً من الأُمور التي لها صلة بشأن المنافقين، مع أنّ هؤلاء قد طردوا من المجتمع الإِسلامي بعد فتح مكّة، وامتداد نفوذ المسلمين وسيطرتهم على أرجاء الجزيرة العربية كافة، فتحطمت قوتهم، ولم يبق عندهم إِلاّ ما كانوا يخفونه مقهورين؟

فما هذه المسألة المهمّة - يا تُرى - التي برزت في الشهور الأخيرة من حياة رسول (ص) بحيث تنزل هذه الآية وفيها كل ذلك التوكيد؟

ليس ثمّة شك أنّ قلق رسول (ص) لم يكن لخوف على شخصه وحياته، وإِنّما كان لما يحتمله من مخالفات المنافقين وقيامهم بوضع العراقيل في طريق المسلمين.

هل هناك مسألة تستطيع أن تحمل كل هذه الصفات غير مسألة استخلاف النّبي (ص) وتعيين مصير مستقبل الإِسلام؟!

سوف نرجع إِلى مختلف الرّوايات الواردة في الكثير من كتب السنة والشيعة بشأن هذه الآية، لكي نتبيّن إِن كانت تنفعنا في إِثبات الإِحتمال الذي أوردناه آنفاً، ثمّ نتناول بالبحث الإِعتراضات والإِنتقادات التي أوردها بعض المفسّرين من السنة حول هذا التّفسير.

نزول آية التبليغ:

على الرغم من أنّ الأحكام المتسرعة، والتعصبات المذهبية قد حالت - مع الأسف - دون وضع الحقائق الخاصّة بهذه الآية في متناول أيدي جميع المسلمين بغير تغطية أو تمويه، إِلاّ أن هناك مختلف الكتب التي كتبها علماء من أهل السنة في التّفسير والحديث والتّأريخ، أوردوا فيها روايات كثيرة تقول جميعها بصراحة إِنّ الآية المذكورة قد نزلت في علي (ع).

هذا الرّوايات ذكرها الكثيرون من الصحابة، منهم "زيد بن أرقم" و"أبو سعيد الخدري" و"ابن عباس" و"جابر بن عبدالله الأنصاري" و"أبو هريرة" و"البراء بن عازب" و"حذيفة" و"عامر بن ليلى بن ضمرة" و"ابن مسعود" وقالوا: إِنّها نزلت في علي (ع) وبشأن يوم الغدير.

بعض هذه الأحاديث نقل بطريق واحد مثل رواية زيد بن أرقم.

وبعضها نقل بأحد عشر طريقاً، مثل رواية أبي سعيد الخدري ورواية ابن عباس.

وبعضها نقل بثلاثة طرق، مثل رواية البراء بن عازب، أمّا العلماء الذين أوردوا هذه الرّوايات في كتبهم فهم كثيرون، من بينهم:

الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه "ما نزل من القرآن في علي" (نقلا عن "الخصائص" الصفحة 29).

وأبو الحسن الواحدي النيسابوري في "أسباب النّزول" الصفحة 150.

والحافظ أبو سعيد السجستاني في كتابه "الولاية" (نقلا عن كتاب "الطرائف").

وابن عساكر الشافعي (انظر "الدر المنثور" المجلد 3 من الصفحة 298).

والفخر الرازي في "تفسير الكبير" المجلد 3 الصفحة 636.

وأبو إِسحاق الحمويني في "فرائد السمطين".

وابن الصباغ المالكي في "الفصول المهمّة" الصفحة 27.

وجلال الدين السيوطي في "الدر المنثور" المجلد 3 الصفحة 298.

والقاضي الشوكاني في "فتح القدير" المجلد 3 الصفحة 57.

وشهاب الدين الآلوسي الشافعي في "روح المعاني" المجلد 6 الصفحة 172.

والشيخ سليمان القندوزي الحنفي في "ينابيع المودة" الصفحة 120.

وبدر الدين الحنفي في "عمدة القاريء في شرح صحيح البخاري" المجلد 8، الصفحة 584.

والشيخ محمّد عبده المصري في تفسير "المنار" المجلد 6 الصفحة 463.

والحافظ ابن مردويه (المتوفى سنة 416) (عن السيوطي في "الدر المنثور").

وجماعة كثيرون غيرهم أشاروا إِلى سبب نزول هذه الآية.

ونحن لا نعني - طبعاً - أنّ العلماء والمفسّرين الذين مرّ ذكرهم قد قبلوا نزول الآية في علي (ع)، بل نقصد أنّهم ذكروا - فقط - الرّوايات الخاصّة بذلك في كتبهم، ولكنّهم بعد أن نقلوا تلك الرّوايات المعروفة، امتنعوا عن قبولها، إمّا خوفاً من الظروف التي كانت تحيط بهم، وإمّا لأنّ التسرع في الحكم وقف حائلا دون إِصدار حكم سليم في أمثال هذه الأُمور، بل لقد سعوا - قدر إِمكانهم - أن يعتموا الرؤية الصحيحة لها ويظهروها بشكل هامشي.

فهذا الرازي - مثلا - وهو المعروف بتعصبه المذهبي في مسائل خاصّة، أدرج سبب نزول هذه الآية كاحتمال عاشر بعد إِيراده تسعة احتمالات أُخرى كلها واهية وضعيفة ولا قيمة لها.

وليس هذا بمستغرب من الرازي، فهذا شأنه في كل المواضيع.

لكنّنا نتعجب من كُتّاب مثقفين أمثال سيد قطب، في تفسيره "في ظلال القرآن" ومحمّد رشيد رضا في تفسيره "المنار"، الذين أهملوا - كلياً - الإِشارة إِلى سبب نزول هذه الآية المذكور في أُمهات المصادر الإِسلامية، أو ضعّفوا أهميته بحيث أصبح بتصويرهم لا يستلفت نظراً.

هل كانت الظروف المحيطة بهؤلاء لا تسمح لهم بذكر الحقيقة؟ أم أنّ حُجُب التعصب أكثف من أن تخترقها أشعة التنوير؟! لا ندري!!

وهناك آخرون اعتبروا نزول الآية في علي (ع) أمراً مسلّماً به، ولكنّهم ترددوا في الإِقرار بأنّها تدل على الولاية والخلافة.

وسنردّ - إِن شاء الله - على إِشكالات هؤلاء.

على كل حال، إِنّ الرّوايات المنقولة في كتب أهل السنّة المعروفة - دع عنك كتب الشيعة - في هذا الموضوع من الكثرة بحيث لا يمكن إِنكارها أو تجاوزها بسهولة.

لسنا ندري لماذا يكتفى في أسباب نزول سائر الآيات بحديث واحد أو حديثين إِثنين فقط، ولا تكون كل هذه الرّوايات الواردة بشأن نزول هذه الآية كافية؟!

أفي هذه الآية من الخصوصية ما ليس في الآيات الأُخرى؟

ترى هل هناك دليل منطقي يسوّغ كل هذا التصلّب؟

ثمّة موضوع آخر لابدّ من الإِشارة إِليه، هو أنّ الرّوايات التي ذكرناها فيما سبق تتعلق كلها بنزول هذه الآية في علي (ع)، أي الرّوايات الخاصّة بسبب نزول هذه الآية فقط، أم الرّوايات الواردة عن حادثة غديرخم وخطبة الرّسول الكريم (ص) وإِعلانه وصاية علي (ع) وولايته، فإِنّها أكثر بكثير من تلك، حتى أنّ العلاّمة الأميني (رحمه الله) ينقل في كتابه "الغدير" حديث الغدير عن 110 من صحابة رسول الله (ص) مع اسنادها، وعن 84 من التابعين، وعن 360 من العلماء والأُدباء المسلمين المعروفين بما لا يدع مجالا للشك في أنّ حديث الغدير واحد من أوثق الأحاديث المتواترة، ولئن شك أحد في تواتر هذه الرّوايات فإِنّه لا يمكنه أن يقبل أي حديث متواتر آخر.

ولمّا كانت دراسة كل هذه الرّوايات الخاصّة بشأن نزول هذه الآية، وكذلك البحث في الرّوايات الخاصّة بحادث الغدير، يتطلب تأليف كتاب ضخم يخرجنا عن طريقتنا في التّفسير، فإنّنا نكتفي بهذا القدر، ونحيل طالب الإِستزادة حول هذا الموضوع الى الكتب التّالية: "الدر المنثور" للسيوطي، و"الغدير" للعلاّمة الأميني، و"إِحقاق الحقّ" للقاضي نور الدين التستري، و"المراجعات" للسيد عبد الحسين شرف الدين، و"دلائل الصدق" للشيخ محمّد حسن المظفر.

حادثة الغدير بايجاز:

على الرغم من أنّ الرّوايات التي تذكر هذه الحادثة كثيرة وهي تصف واقعة بعينها، فإِنّ الرّوايات التي عبّرت عنها متنوعة، فبعض هذه الرّوايات مسهب مطوّل، وبعضها الآخر موجز مكثف، وبعضها يتناول جانباً معيناً من الحادثة، ومن مجموع تلك الرّوايات ومن التّأريخ الإِسلامي ومن ملاحظة القرائن والظروف المحيطة بوقوعها وبمكانها يتبيّن مايلي:

أنّه في السنة الأخيرة من حياة النّبي (ص) أدّى المسلمون مع رسول الله (ص) حجّة الوداع في عظمة وجلال، وكان لهذه الحجة أثر كبير في النفوس، وبعد إِنتهائها أحاطت بالقلوب هالة من السموّ الروحي، وتشرّبت في الأعماق لذّة هذة العبادة الكبرى.

وكانت الجموع الغفيرة (2) من المسلمين المشاركين في تلك الحجّة يكادون يطيرون فرحاً لهذه السعادة الكبرى التي شرفهم الله بها.

لم يكن أهل المدينة وحدهم قد رافقوا النّبي (ص) في هذه الحجة، بل التحق بركبه مسلمون توافدوا من سائر أنحاء الجزيرة العربية لينالوا شرف الصحبة في هذه الحجّة.

كانت الشمس ترسل أشعتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول لكن لذّة هذا السفر الروحي يسّرت كل شيء.

اقترب وقت الظهيرة، واقترب الركب الكبير من أرض الجحفة، وظهرت من بعيد أرض "غديرخم" القاحلة الجافة المحرقة.

كانت المنطقة، في الحقيقة، تقع على مفترق طرق أربع حيث كان على الحجيج أن يتفرقوا إِلى الوجهة التي يقصدونها فطريق يتجه إِلى المدينة نحو الشمال، وآخر يوصل إِلى العراق شرقاً، وطريق الغرب يتجه إِلى مصر، وطريق الجنوب يصل إِلى اليمن.

ها هنا كان لابدّ أن يتحقق أهم فصل من فصول هذه الرحلة وآخر ذكرياتها.

وكان على المسلمين أن يتلقوا آخر تكليف لهم، أو المرحلة النهائية من المهمات الناجحة التي اضطلع بها رسول الله (ص)، قبل أن يتفرقوا إِلى حال سبيلهم.

كان يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت ثمانية أيّام على عيد الأضحى، وإِذا برسول الله (ص) يصدّر أمره للحجيج بالتوقف، فراح المسلمون يتنادون الذين في مقدمة الركب أن يعودوا، وانتظروا حتى يلتحق بهم من كان في المؤخرة أيضاً.

كان الشمس قد تخطت نقطة الزوال، وصعد مؤذن النّبي (ص) ينادي في الناس لصلاة الظهر، وأخذ الناس يستعدون - مسرعين - لأداء الصّلاة.

كانت الرياح لافحة محرقة، حتى اضطر بعضهم إِلى أن يضع قسماً من عباءته تحت قدميه وقسماً منها فوق رأسه كي يتقي حرارة الحصى وأشعة الشمس.

ما كان في تلك الصحراء ما يستظل به، ولا ما تستريح إِليه العين من خضرة الأعشاب، اللّهم إِلاّ بضع شجيرات عجاف عارية تصارع حرارة الجو صراعاً مريراً.

كان جمع قد لجأ إِلى هذه الشجيرات ونشر رداءه عليها ليستظل به رسول الله (ص)، إِلاّ أنّ الرياح الساخنة كانت تعصف بتلك المظلة فتنشر تحتها حرارة الشمس الحارقة.

إنتهت صلاة الظهر وهرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم يلوذون بها من حر الهاجرة.

إِلاّ أنّ رسول الله (ص) أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدوا لسماع رسالة إِلهية، جديدة في خطبته، وكان الذين يقفون على مسافة من رسول الله (ص) لا يستطيعون رؤيته، لذلك صنعوا له منبراً من أحداج الإِبل ارتقاه رسول الله (ص) فقال: "الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتول عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إِله إلاّ الله، و أنّ محمّداً عبده ورسوله.

أمّا بعد: أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إِلاّ مثل نصف عمر

الذي قبله، وإِنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإِني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنك بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال: ألستم تشهدون أن لا إِله إِلاّ الله، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأن جنّته حقّ، وناره حقّ، وأن الموت حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: اللّهم اشهد، ثمّ قال: أيّها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.

ثمّ ساد الجوّ صمت عميق، ولم يُسمع فيه سوى أزيز الرياح... قال رسول الله (ص) : "... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين".

فنادى مناد: وما الثقلان، يا رسول الله؟

قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرفّ بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.

ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض إباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيّها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: إِنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه" "يقولها ثلاث مرات"، وفي لفظ الإِمام أحمد إِمام الحنابلة: "أربع مرات".

ثمّ قال: "اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبَّ من أحبّه،

وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب".

ثمّ لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي...) الآية.

فقال رسول الله (ص) : "الله أكبر على إِكمال الدين، وإِتمام النعمة، ورضى الرّب برسالتي والولاية لعلي من بعدي".

ثمّ طفق القوم يهنئون أميرالمؤمنين (ع) وممن هنّأه أبوبكر وعمر كلّ يقول: بخّ.

بخّ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وقال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم.

وانبرى حسان بن ثابت، شاعر رسول الله (ص) يستأذنه في تخليد ذكرى هذه الحادثة في شعره، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم***بخم وأسمع بالرّسول مناديا

فقال: فمن مولاكم ونبيّكم؟***فقالوا، ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا***ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له: قم يا عليّ فإنّني***رضيتك من بعدي إِماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه***فكونوا له أتباع صدق وواليا

هناك دعا: اللّهم وال وليه***وكن للذي عادى علياً معاديا (3)

محاورات وشبهات:

ليس ثمّة شك في أنّ هذه الآية، لو لم تكن قد نزلت في خلافة علي (ع)، لأكتُفي فيها - كما قلنا - بأقل ممّا ورد فيها من روايات ومن قرائن موجودة في الآية نفسها، فكثير من كبار المفسّرين المسلمين يكتفون في تفسير سائر الآيات القرآنية حتى بعُشر الرّوايات الموجودة بشأن هذه الآية، أو أقل من ذلك.

ولكن ممّا يؤسف له أنّ حجاب التعصب قد حال دون قبول كثير من الحقائق.

إِنّ الذين يحملون لواء المخالفة تجاه تفسير هذه الآية والرّوايات الكثيرة الواردة بشأن نزولها، والرّوايات المتواترة بخصوص أصل حادثة الغدير، ينقسمون إِلى قسمين:

قسم حمل منذ البداية روح العناد والتعنت، وحمل بشدّة على الشيعة بالإِهانة والسب والشتم.

وآخرون حافظوا - إِلى حد ما - على الروح العلمية في البحث والتحقيق، وتابعوا القضية عن طريق الإِستدلال، ولذلك فهم يعترفون بجانب من الحقائق، ولكنّهم بعد إِيرادهم بعض الإِشكالات - التي ربّما كانت نتيجة لظروفهم الفكرية الخاصّة يتركون الوقوف عند الآية والرّوايات المرتبطة بها.

والنموذج البارز الذي يمثل القسم الأوّل هو ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" حيث يبدو فيه كمن يغمض عينيه في رابعة النهار ويضع أصابعه في أذنيه بشدّة، ثمّ ينادي: أين الشمس؟ فلا هو مستعد أن يفتح طرفاً من عينه ليرى بعض الحقائق، ولا هو يرضى برفع أصابعه عن أُذنيه كي يستمع الى ضجيج المحدثين والمفسّرين المسلمين، بل يستمر في سبه وشتمه وإِهاناته.

إِنّ دافع هؤلاء هو الجهل وعدم الإِطلاع والتعصب المقرون بالعناد، ممّا دفع بهم إِلى إِنكار البديهيات والواضحات التي لا تخفى على أحد.

لذلك فنحن لا نجشم أنفسنا عناء نقل أقوالهم، ولا نحمل القراء عناء سماع إِجاباتهم، فماذا يمكن أن يقال لمن ينبري بكل وقاحة لتجاهل هذا الحشد الكبير من كبار علماء الإِسلام والمفسّرين - ومعظمهم من أهل السنة - من الذين أعلنوا

أن تلك الآية قد نزلت بشأن علي (ع) فيدعي - متعامياً عن الحقّ - أن أحداً من العلماء لم يقل شيئاً كهذا في كتابه!! وما قيمة قوله هذا ليستحق البحث فيه؟!

من الجدير بالذكر أنّ ابن تيمية، في محاولته تبرئة نفسه قبال كل هذه الكتب المعتبرة التي تقول بنزول هذه الآية بحق علي (ع)، يلجأ إِلى تعبير مضحك، ويكتفي بقوله: "إِن العلماء الذين يعرفون ما يقولون لا يرون أن هذه الآية قد نزلت في علي"!!... فالظاهر "أنّ العلماء الذين يعرفون ما يقولون" هم أُولئك الذين يضمون أصواتهم إِلى أصوات ابن تيمية وعناده المفرط.

أمّا من لا يضمّ صوته إِليه فإنّه عالم لا يدرك ما يقول.

وهذا منطق من ألقى العناد وحبّ الذات على عقله ظلالا مشؤومة، فلندَعْ هؤلاء.

أمّا الشبهات التي أوردها القسم الثّاني من العلماء، فمنها ما يجدر بالبحث، وسوف نتناولها فيما يلي:

1 - هل معنى "المولى" هو "الأولى بالتصرف"؟

إِنّ أهم اعتراض يورد على حادثة الغدير هو أنّ من معاني "مولى" الصديق والنصير والمحب، ومن الممكن أن تكون الكلمة هنا بهذا المعنى أيضاً.

ليس رد هذا الإِعتراض بصعب، لأنّ كل ناظر منصف يدرك أن تذكير الناس بمحبّة علي (ع) لا يقتضي كل تلك المقدمات، لا إِلقاء خطبة في تلك الصحراء القاحلة وتحت ذلك الحر المحرق، وايقاف تلك الجموع وانتزاع الإِعترافات المتوالية منهم.

إِنّ حب المسلم لأخيه المسلم من المفاهيم الإِسلامية الواضحة التي تقررت منذ بداية الدعوة.

ثمّ إِنّ هذا الأمر لم يكن من الأُمور التي لم يبلغها رسول الله (ص) حتى ذلك الوقت، بل ثبّته وأعلنه مراراً.

كما إِنّه لم يكن من الأُمور التي تثير قلق رسول الله (ص) وتخوفه حتى يطمئنه الله تعالى بشأنه.

ولا كان أمراً على هذا القدر من الأهمية بحيث تتخذ الآية هذا الأُسلوب الشديد في مخاطبة رسول الله (ص) : (وإِن لم تفعل فما بلغت رسالته).

كل هذه تدل على أنّ الأمر كان أكثر من مجرّد محبّة عادية تلك المحبّة التي كانت من أوليات الأُخوة الإِسلامية منذ بزوغ فجر الدعوة الإِسلامية.

ثم، إِذا كان القصد هو تبيان مثل هذه المحبة العادية، فلماذا يعمد رسول الله (ص) إِلى استخلاص الإِعترافات من الحاضرين قبل بيان قصده، فيسألهم: "ألست أولى بكم من أنفسكم" (4) ؟ أيتناسب هذا مع بيان محبّة عادية؟

ثمّ إِنّ المحبّة العادية لا تستدعي من الناس، وحتى من عمر نفسه، أن يهنىء علياً (ع) بقوله: "أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة" (5).

حبّ المسلم واجب، وعليّ كسائر المسلمين، ويجب حبّه، وليس في ذلك شيء جديد يستوجب التهنئة في ذلك اليوم وفي آخر سنة من حياة رسول الله (ص).

ثمّ إِنّ هناك ارتباطاً بين حديث "الثقلين" (6) وعبارات وداع رسول الله (ص) وموالاة علي (ع)، وإِلاّ فإنّ حبّ علي (ع) حبّاً عادياً لا يستدعي أن يجعله رسول الله (ص) في مصافّ القرآن!

أفلا يرى المنصف المحايد في التعبير الوارد في حديث الثقلين أنّ المسألة تتعلق بالقيادة، لأنّ القرآن هو القائد الأوّل للمسلمين بعد رحيل رسول الله (ص) وأهل البيت (عليهم السلام) هو القائد الثّاني؟

2 - ترابط الآيات

قد يقال أحياناً إِنّ الآيات السابقة واللاحقة على هذه الآية تخص أهل الكتاب ومخالفاتهم.

وهذا ما يقول به صاحب تفسير "المنار" في المجلد 6 صفحة 466 ويصر على ذلك.

ولكن لا ضير في ذلك - كما قلنا في تفسير الآية نفسها - لأنّ اختلاف لحن الآية يختلف عن مواضيع الآيات التي قبلها وبعدها.

وثانياً سبق أن قلنا مراراً أن القرآن ليس كتاباً أكاديمياً يلتزم في مواضيعه أسلوب التبويب والتقسيم إِلى فصول وفقرات معينة، بل إِنّ آياته نزلت بحسب الحاجات والحوادث والوقائع المختلفة الطارئة.

لذلك نلاحظ أنّ القرآن في الوقت الذي يتكلم عن إِحدى الغزوات، ينتقل إِلى ذكر حكم من الأحكام الفرعية - مثلا - وفي الوقت الذي يتحدث عن اليهود والنصارى، يخاطب المسلمين ويذكرهم بأحد القوانين الإِسلامية السابقة.

(راجع بحثنا في بداية تفسير هذه الآية لزيادة التوضيح).

من العجيب أنّ بعض المتعصبين يصرّون على القول بأنّ هذه الآية قد نزلت في أوائل البعثة، مع أن سورة المائدة نزلت في أواخر عمر رسول الله (ص).

فإِذا قالوا: إِن هذه الآية وحدها نزلت في مكّة في أوائل البعثة، ثمّ أدخلت في هذه الآية للتناسب نقول: إِن هذا على عكس ما تبحثون عنه تماماً، لأننا نعرف أن رسول الله (ص) في أوائل البعثة لم يصطدم باليهود ولا بالنصارى.

وعليه فإن ارتباط هذه الآية ينقطع بما قبلها وما بعدها من آيات (تأمل بدقّة).

هذه كلها أدلة على أن هذه الآية قد تعرضت إِلى هبوب عواصف التعصب،

فأحاطت بها بعض علامات الاستفهام ممّا لا يعتور آيات مشابهة أُخرى أبداً.

أمّا هذه الآية فكل يحاول من جهة أن يتشبث بما حرفها عن مسيرها.

3 - أتذكر الصّحاح كلّها هذا الحديث؟

يقول بعضهم: كيف يمكن قبول هذا الحديث مع أنّه لم يرد في صحيحي مسلم والبخاري؟

وهذا من عجائب القول أيضاً: فهناك:

أوّلا: كثير من الأحاديث المعتبرة التي قبل بها أهل السنّة مع أنّها ليست في صحيحي مسلم والبخاري، فهذا الحديث ليس الأوّل من نوعه في هذه الحالة.

ثانياً: هل أنّ هذين الصحيحين هما الكتابان الوحيدان الموثقان عندهم، مع أنّ هذا الحديث قد ورد في سائر الكتب الأُخرى المعتبرة عندهم، وحتى في بعض الصحاح الستة (وهي التي يعتمدها أهل السنة)، مثل "سنن ابن ماجة" (7) و"مسند أحمد" (8).

وهناك علماء مثل "الحاكم النيسابوري" و"الذهبي" و"ابن حجر" اعترفوا بصحة الكثير من طرق هذا الحديث، على الرغم ممّا عرف عنهم من التعصب.

لذلك فلا يستبعد أن يقع البخاري ومسلم تحت ضغط السياسة الذي ساد زمانهما، فلم يستطيعا، أو لم يشاءا أن يقولا ما لا يتلاءم ورغبة سلطات زمانهما في كتابيهما.

4 - لِمَ لَم يستدل علي وأهل البيت (عليهم السلام) بهذا الحديث؟

يقول بعض: لو كان حديث الغدير - على عظمته - صحيحاً فلماذا لم يستدل به علي (ع) وأهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم ومحبّوهم عند اقتضاء الضرورة؟ ألم يكن من الخير لو أنّهم استندوا إِلى مثل هذا السند المهم لإِثبات حق علي (ع) ؟

هذا أيضاً قول آخر ينبع من عدم الإِحاطة بالمصادر الإِسلامية في حقل الحديث والتّفسير والتّأريخ، إِذ أنّ كثيراً من كتب علماء السنة قد ذكرت أن عليّاً (ع) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم قد استدلوا فعلا بحديث الغدير.

فهذا الخطيب الخوارزمي الحنفي في "المناقب" يروي عن عامر بن واثلة، قال: كنت على الباب يوم الشورى مع علي (ع) في البيت وسمعته يقول: "لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك" ثمّ قال: "أنشدكم الله أيّها النفر جميعاً أفيكم أحد وحّد الله قبلي؟" قالوا: لا (ثمّ استمر في تعديد مناقبه وفضائله)... إِلى أن قال: "فانشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (ص) : من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب، غيري؟".

قالوا: اللهم لا..." الحديث (9).

هذه الرواية يذكرها الحمويني في "فرائد السمطين" في الباب 58، وابن حاتم في "الدر النظيم" والدارقطني، وابن عقدة، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

كذلك نقرأ في "فرائد السمطين" في الباب 58 أن علياً (ع) استشهد بحديث الغدير أمام جمع من الناس في المسجد على عهد عثمان، وفي الكوفة أيضاً إِستند إِلى هذا الحديث لتفنيد رأي الذين أنكروا خلافته بعد رسول الله (ص) مباشرة.

يقول صاحب كتاب "الغدير": إِنّ أربعة من الصحابة وأربعة عشر من التابعين قد رووا هذا الحديث حسب ما نقلته مصادر أهل السنة المعروفة.

وكما يقول الحاكم النيسابوري - في الصفحة 371 من المجلد الثّالث - من "المستدرك" فإنّ علياً (ع) قد إِستشهد بهذا الحديث يوم حرب الجمل أمام طلحة.

كذلك في حرب صفين - كما يقول سليم بن قيس الهلالي - إِنّ علياً كان في عسكره وأمام جمع من المهاجرين والأنصار والقادمين من أطراف البلاد، فاستشهد بهذا الحديث فقام إِثنا عشر من الذين أدركوا بدراً مع رسول الله (ص) وأكّدوا أنّهم سمعوا الحديث من رسول الله (ص).

وبعد علي (ع) إِستند إِلى هذا الحديث سيدة الإِسلام فاطمة الزّهراء (عليها السلام) والإِمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبدالله بن جعفر، وعمّار بن ياسر، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، والمأمون الخليفة العباسي.

بل أنّ عمرو بن العاص في رسالة له إِلى معاوية أراد أن يثبت لمعاوية فيها أنّه على علم تام بالحقائق الخاصّة بمكانة كل من علي (ع) ومعاوية بالنسبة للخلاقة، فاستشهد صراحة بحديث الغدير، وقد نقله الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتابه "المناقب" صفحة 124 (على الذين يرغبون في المزيد من التوضيح بشأن إِستدلال علي (ع) وأهل البيت وبعض الصحابة وغير الصحابة بحديث الغدير، أن يرجعوا إِلى الصفحات 159 - 213، من المجلد الأوّل من كتاب "الغدير" فقد أورد العلاّمة الأميني (رحمه الله) أسماء 22 من الصحابة، وغير الصحابة ممن استدلوا بهذا الحديث).

5 - مفهوم الجملة الأخيرة من الآية يقولون: لو كانت الآية تخص تنصيب علي (ع) في الخلافة والولاية وترتبط بحديث غدير خم، فما علاقة كلّ هذا بما جاء في آخر الآية: (إِنّ الله لا يهدي القوم الكافرين).

للردّ على هذا الإِعتراض يكفي أن نعرف أنّ لفظة "الكفر" في اللغة وفي القرآن تعني الإِنكار والمخالفة والترك.

فمرّة يقصد بها إِنكار الله ونبوة رسول الله (ص)، ومرّة يراد بها إِنكار بعض الأحكام أو مخالفتها، ففي الآية (97) من سورة آل عمران فيما يرتبط بالحج نقرأ: (ومن كفر فإِنّ الله غني عن العالمين) والآية (102) من سورة البقرة تصف السحرة والذين تلوثوا بالسحر بأنّهم كفّار: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إِنّما نحن فتنة فلا تكفر)، وفي الآية (22) من سورة إِبراهيم نرى أنّ الشيطان يندد يوم القيامة بأُولئك الذين أطاعوه واتبعوه ويقول لهم: انكم بعدم إِطاعتكم أوامر الله قد جعلتموني شريكاً له، وإِني اليوم أكفر بعملكم ذاك: (إِني كفرت بما أشركتموني من قبل)، وعليه، فلا عجب أن يطلق القرآن صفة الكفر على الذين يخالفون مسألة الولاية والخلافة.

6 - هل يمكن وجود وليّين في وقت واحد؟

من الذرائع الأُخرىالتي تذرعوا بها للنكوص عن هذه الحديث المتواتر والآية المذكورة، هي أنّه إِذا كان رسول الله (ص) قد نصب علياً (ع) يوم الغدير للخلافة والولاية، فإن ذلك يعني وجود وليّين وقائدين في وقت واحد.

إِلاّ أنّ الإِلتفات إِلى الظروف الزمانية الخاصّة بنزول الآية وورود الحديث، وكذلك القرائن المستوحاة من خطبة رسول الله (ص) تنفي هذه الذريعة أيضاً، إِنّنا نعلم أنّ هذا الحدث قد جرى في أواخر عمر رسول الله (ص) وإِنّه كان يبلغ الناس بآخر الأوامر لأنّه قال "وإنّي أوشك أن أدعى فأجيب".

إِنّ من يقول هذا لا شك في أنّه بصدد تعيين خليفته، وإِنّه يضع الخطط للمستقبل، لا للحاضر، كذلك من الواضح، إِنّه لا يقصد إِعلان وجود قائدين أو وليّين في وقت واحد.

وممّا يلفت النظر أنّ بعض علماء أهل السنة الذين يطرحون هذا الإِعتراض، يتقدم بعضهم برأي يناقض ذلك تماماً، وهو أن رسول الله (ص) قد عين علياً (ع) في الخلافة والولاية، ولكنّه لم يعين تأريخ التعيين، فما المانع أن يأتي ذلك بعد ثلاثة خلفاء؟

إِنّه لأمر محير حقّاً! يتشبثون بألوان المتناقضات لكي يبتعدوا عن حقيقة القضية! ألا يسأل هؤلاء أنفسهم: إِذا أراد رسول الله (ص) أن يعين خليفته الرابع ضماناً لمستقبل المسلمين، فلماذا لم يعين الخليفة الأوّل والثّاني والثّالث في يوم الغدير، وهم يتقدمون الرّابع وتنصيبهم مقدم على الأوّل؟!

ومرّة أُخرى نكرر مقولتنا السابقة لنختم به بحثنا هذا، وهي أنّه لولا وجود نظرات خاصّة في الأمر، لما حدثت كل هذه الإِعتراضات والإِشكالات بشأن هذه الآية وهذا الحديث، كما لم يحدث شيء من ذلك في غيرهما.


1- عبارة "بلِّغْ" كما يقول الراغب في "المفردات" أكثر توكيداً من "أَبْلِغْ".

2- قيل أنّ عددهم 90 ألفاً، وقيل 120 ألفاً، وقيل 124 ألفاً.

3- نقل هذه الأبيات جمع من كبار علماء أهل السنة، منهم: الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والحافظ أبو سعيد السجستاني، والخوارزمي المالكي، والحافظ أبو عبدالله المرزباني، والكنجي الشافعي، وجلال الدين السيوطي، وسبط بن الجوزي، وصدر الدين الحموي، وغيرهم.

4- وردت هذه العبارة في روايات كثيرة.

5- هذا القسم من الحديث يعرف بحديث "التهنئة" وقد أورده كثير من كبار علماء الحديث والتّفسير والتّأريخ من أهل السنة، عن طريق عدد من الصحابة، مثل: ابن عباس، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم. وقد نقل العلاّمة الأميني(رحمه الله) هذا الحديث في المجلد الأوّل من كتابه "الغدير" عن ستين عالماً من علماء أهل السنة!.

6- "حديث الثقلين" من الأحاديث المتواترة التي وردت في كتب أهل السنة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وحذيفة بن أسيد، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن حنطب، وعبد بن حميد، وجبير بن مظعم وضمرة الأسلمي، وأبوذر الغفاري، وأبو رافع، وأم سلمة، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

7- المجلد الأوّل، ص55 و58.

8- مسند أحمد، المجلد الأول، الصفحات 84 و 88 و 118 و 119 و 152 و 331 و 281 و 370.

9- "المناقب"، ص 217.