الآيتان 59 - 60
﴿قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـسِقُونَ59 قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّـغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلَ60﴾
سبب النّزول
نقل عن عبدالله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إِلى النّبي (ص) وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته، فأخبرهم النّبي (ص) أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته، ثمّ قالوا للنّبي (ص) أنّهم لا يعرفون ديناً أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّاً على هؤلاء الحاقدين.
التّفسير
في هذه الآية يأمر الله نبيّه (ص) أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين، وهل أنّ الإِيمان بالله الواحد الأحد والإِعتقاد بما أنزل على نبي الإِسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالإِعتراض والإِنتقاد، حيث تقول الآية: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إِلاّ أن آمنا بالله وما أنزل إِلينا وما أنزل من قبل...) (1).
وتشير هذه الآية - أيضاً - إِلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر، ونظرتهم الضيقة الأحادية الجانب التي دفعت بهم إِلى الإِستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّاً.
وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه، ما هو إِلاّ لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب، ولذلك فهم - لإِنحرافهم وتلوثهم بالآثام - يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية: (وإنّ أكثركم فاسقون).
وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق، تنقلب - أحياناً - بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقاً، ويصبح العمل الصالح والإِعتقاد النزيه شيئاً قبيحاً مثيراً للإعتراض والإِنتقاد، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئاً جميلا جديراً بالإِستحسان والمديح، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الإِنغماس في الخطايا والذنوب إِلى درجة الإِدمان.
وتجدر الإِشارة إِلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب، وواضح أنّها عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.
الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.
وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبي (ص) أن يسأل هؤلاء: هل أنّ الإِيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والإِعتراض، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟
فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء: إِن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال، حيث تقول: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله...) (2).
ولا شك أنّ الإِيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإِيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب، هي من باب الكناية، كما ينتقد انسان فاسد انساناً تقياً فيسأل الإِنسان التقي رداً على هذا الفاسد: أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.
بعد هذا تبادر الآية إِلى شرح الموضوع، فتبيّن أنّ أُولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قروداً وخنازير، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام، إِنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعاً أسوأ من هذا الوضع، لأنّهم ابتعدوا كثيراً عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب، تقول الآية الكريمة: (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أُولئك شرّ مكاناً وأضل عن سواء السبيل) (3).
وسنتطرق إِلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإِنسان، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟ وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف، وبصورة مفصلة باذن الله.
1- إنّ كلمة "تنقمون" مشتقة من المصدر "نقمة" وتعني في الأصل إِنكار شيء معين نطقاً أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.
2- إنّ كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إِلى الحالة الاُولى، كما تطلقان ـ أيضاً ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنّهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن، وأحياناً تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.
3- إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والإِعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية بـ(سواء السبيل)لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالأِعتدال وتخلو من الإِنحراف. ويجب الإِنتباه هنا ـ أيضاً ـ إِلى أن عبارة (عبد الطاغوت) عطف على جملة (من لعنه الله)وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية (عبد الطاغوت) على أهل الكتاب، إمّا أن يكونإِشارة إِلى عبادة العجل من قبل اليهود، أو إِشارة إِلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.