الآيتان 30 - 31

﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـسِرِينَ * فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الاْرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَـوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَرِىَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـدِمِينَ﴾

التّفسير

التّستر على الجريمة:

تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم(عليه السلام)، فتبيّن الآية الأُولى منهما أن نفسى قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول: (فطوعت له نفسه قتل أخيه).

ونظراً لأنّ كلمة "طوع" تأتي في الأصل من "الطاعة" لذلك يستدل من هذه العبارة على أن قلب "قابيل" بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إِلى الإِنتقام من أخيه "هابيل" ومن جانب آخر كانت عواطفه الإِنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويداً رويداً على مشاعره الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لتقل أخيه، وتدل عبارة "طوعت" مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأنّ عملية التطويع كما نعلم لا تتمّ في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.

وتشير الآية - في آخرها - إِلى نتيجة عمل "قابيل" فتقول (فأصبح من الخاسرين) فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإِنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إِلى يوم القيامة، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.

وقد حاول البعض الإِستدلال من كلمة "أصبح" على أن جريمة القتل قد يوقعت لي، في حين أنّ كلمة "أصبح" من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في يزمن معين لي مكان أم نهاراً، بل تدل على حدوث شيء ما، كما جاء في الآية (103) من سورة آل عمران في قوله تعالى: (...فأصبحتم بنعمته إِخواناً...).

وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائراً لا يدري ما يفعل بها، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة "هابيل" فاضطر "قابيل" (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإِنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غراباً (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءاً من طعامه - كما هي عادة الغربان - وليدل بذلك "قابيل" كيف يدفن جثة أخيه، حيث تقول الآية الكريمة، (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه)(1).

ولا غرابة في أن يتعلم إِنسان شيئاً من طير من الطيور، فالتاريخ والتجربة يدلان على أنّ للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها يمنها البشر على طول التاريخ، مكم بذلك معلوماته ومعارفه، وحتى بعض الكتب الطبيّة تذكر أنّ الإِنسان مدين في جزء من معلوماته الطبية للحيوانات!

ثمّ تشير الآية الكريمة إِلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله، فأخذ يؤنب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله، فتقول الآية: (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي...).

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: (فأصبح من النادمين).

فهل كان ندمه على جريمته، خوفاً من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربّما أخوته الآخرين الّذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أنّ ندمه كان إِشفاقاً على نفسه، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ماذا يفعل به أو كيف يدفنه؟ أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإِنسان - عادة - من قلق واستياء بعد إرتكاب كل عمل قبيح؟

مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى "قابيل" فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإِنسان المذنب تكرار الذنب، خوف من الله واستقباحاً للذنب، ولم يشر القرآن الكريم إِلى صدور مثل هذه التوبة عن "قابيل"، وقد تكون الآية التالية إِشارة إِلى عدم صدور التوبة عنه.

ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل"(2).

ويستدل من هذا الحديث أيضاً على أنّ من سنّ سُنّة سيئة، سيبقى يتحمل وزرها مادامت باقية في الدنيا.

ممّا لا ريب فيه أنّ قصّة ولدي آدم(عليه السلام) قصّة حقيقية، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإِسلامية، كما أنّ عبارة "بالحق" الواردة في هذه القصّة القرآنية تعتبر شاهداً على هذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأقوال التي افترضت لهذه القصّة طابعاً رمزياً من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصّة المفترضة لا أساس لها مطلقاً.

لا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإِيمان والعمل الصالح المقبول عند الله، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالإِنحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.

وكم هو العدد الكبير من اُولئك الإبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون - في النهاية - فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إِلى إِخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب - المذكور في الآية القرآنية الأخيرةـفتحثّهم وتدفعهم إِلى إِخفاء جرائمهم، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران.


1- يجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة "جبار" مأخوذةً أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إِصلاح الشيء بالقسر والإِرغام، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور (تجبيراً) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإِصلاح، ومن جهة أُخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري، وحين تطلق كلمة (جبار) على الله سبحانه وتعالى فذلك إِمّا لتسلطه على كل شيء، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إِلى الإِصلاح.

2- العمالقة قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا معصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتى عام 1703 قبل الميلاد. عن دائرة المعارف لفريد وجدي، ج 60، ص 232 (الطبعة الثّالثة).