الآيات 27 - 29

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانَاً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَْخَرِ قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِط يَدِىَ إِلَيْكَ لاَِقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَـلَمِينَ * إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوا أَبِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـبِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَؤُا الظَّـلِمينَ﴾

التّفسير

أوّل حادثة قتل على الأرض:

لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصّة ولدي آدم(عليه السلام) وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بنيإسرائيل، هو غريزة "الحسد" التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إِسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدي أحياناً إِلى أن يعمد أخ إِلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ الله أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق...).

ولعل استخدام كلمة "بالحق" في هذه الآية جاء للإِشارة إِلى أن القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم(عليه السلام).

ولا شك أنّ كلمة "آدم" الواردة في الآية، تشير إِلى أبي البشرية الحاضرة، وإِنّ ما ذهب إِليه البعض مع أنّها إشارة إِلى شخص من بنيإِسرائيل اسمه "آدم" لا أساس له من الواقع، لأنّ هذه الكلمة استخدمت مراراً في القرآن للدلالة على اسم أبي البشرية، فلو صحّ الإفتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية - أو الآيات - التي بعدها على قرينة تصرف الإِسم عن مسماه الحقيقي الأوّل، ولا يمكن لآية (من أجل ذلك...) التي سيأتي تفسيرها قريباً، أن تكون قرينة على الإِفتراض المذكور كما سيأتي تفصيله.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول: (إِذ قربا قرّباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر...).

وقد أدت هذه الواقعة إِلى أن يهدد الأخ - الذي لم يتقبل الله القربان منه - أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة، كما جاء في قوله تعالى في الآية: (قال لأقتلنّك)أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيراً إِلى أن عدم قبول القربان منه إِنّما نتج عن علّة في عمله، وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكداً أنّ الله يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية: (قال إِنّما يتقبل الله من المتقين).

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إِلى قتله، فإِنه - أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان - لن يمد يده لقتل أخيه، فهو يخاف الله ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإِثم حيث تقول الآية: (لئن بسطت إِلى يدك لتقتلني ما أَنا بباسط يدي لأقتلك إِنّي أخاف الله رب العالمين).

وأضاف هذا الأخ الصالح - مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله - أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين، قائ له: (إِنّي أريد أن تبوأ(1) بإِثمي وإِثمك) (أي لأنّك إِن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة يوعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عم صالحاً لتعوض به، فما عليك إِلاّ أن تتحمل إثمي أيضاً، وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية: (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين).

نقاط مهمّة يجب الإِنتباه لها:

1 - إِن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية - ولا في آيات أُخرى - أي اسم لأبناء آدم(عليه السلام): لكن الروايات الإِسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في هذه الآية كان اسم أحدهما "هابيل" والآخر "قابيل" وقد ورد في سفر التكوين من التوراة في الباب الرابع أنّ ولدي آدم المذكورين اسمهما "قائن" و"هابيل".

وقد ذكر المفسّر المعروف "أبو الفتوح الرازي" أن هذين الإِسمين قد وردا بألفاظ مختلفة، فالاسم الأوّل جاء فيه "هابيل" و"هابل" و"هابن"، "أما الاسم الثّاني فجاء فيه "قابيل" و"قايين" و"قابل" و"قابن" أو "قبن"، وعلى أي صورة كان الاسم فإِنّ الإِختلاف بين الروايات الإِسلامية ونص التوراة بخصوص اسم "قابيل" نابع عن الإِختلاف اللغوي، ولا يشكل أمراً مهماً في هذا المجال.

والغريب في الأمر أنّ أحد الكتاب المسيحيين قد أورد الإِختلاف المذكور يدلي اعترض به على القرآن، فقال: إِنّ القرآن أورد لفظة "قابيل" بدل "قائن"!

والجواب هو أنّ مثل هذا الإِختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال يالأسماء - فمث كلمة "إِبراهيم" الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على شكل "أبراهام"، كما أنّ القرآن الكريم لم يأت مطلقاً باسم "هابيل" و"قابيل" وقد ورد هذان الإِسمان في الروايات الإِسلامية فقط(2).

2 - إِنّ المعروف عن "القربان" هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إِلى الله، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم، بينما نقلت الروايات الإِسلامية - والتوراة في سفر التكوين، الباب الرابع - أن "هابيل" كان يمتلك ماشية فاختار أفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور، وأن "قابيل" الذي كان صاحب زرع، قد اختار لقربانه أردأ الأنواع من زرعه.

3 - لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله - والذي ورد في هذا المجال هو ما نقلته بعض الروايات الإِسلامية من أنّ هذين الشخصين كانا قد وضعا قربانهما على قمة جبل، فنزلت صاعقة فاحرقت قربان هابيل دلالة على قبوله، وبقي قربان قابيل على حاله لم يمسه شيء، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة أيضاً.

لكن بعض المفسّرين يعتقدون أنّ قبول ورفض القربانين إِنّما أعلنا عن طريق الوحي لآدم (عليه السلام)، وما كان سبب ذلك غير أنّ هابيل كان إِنساناً ذا سريرةنقية ييحبّ التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه، بينما كان قابيل رج ملوث القلب حسوداً معانداً فرفض الله قربانه، والآيات التالية توضح حقيقة ما جبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خير وشر.

4 - يستنتج من هذه الآيات - بصورة جلية - أنّ مصدر أولى النزاعات والجرائم في العالم الإِنساني هو "الحسد" ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الإِجتماعية.


1- نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.

2- نقرأ في كتب أن الملك هو "من كان له المُلك، والمُلك هو ما يملكه الإِنسان ويتصرف به - أو - العظمة والسلطة".