الآيات 20 - 26
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَـقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَءَاتَـكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَـلَمِينَ * يَـقَوْمِ ادْخُلُوا الاَْرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَآرِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَسِرِينَ * قَالُوا يَـمُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَلِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّوْمِنِينَ * قَالُوا يَـمُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـتِلاَ إِنَّا هَـهُنَا قَـعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الاَْرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـسِقِينَ﴾
التّفسير
بنوإِسرائيل والأرض المقدسة:
جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إِلى الحق والسعي لمعرفته يأوّ، وإِيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي إرتكبوها ثانياً، ولكي تحفزهم إِلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها، ويذكرهم القرآن في الآية الأُولى بما قاله النّبي موسى(عليه السلام) لأصحابه حيث تقول: (وإِذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم...).
ولا يخفى أنّ عبارة (نعمة الله) تشمل جميع الأنعم الإِلهية، لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثاً من أهم هذه النعم، أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم، فتقول الآية: (إِذ جعل فيكم أنبياء...) وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود يسبعون نبيّاً، وإِنّ السبعين رج الذين ذهبوا مع موسى(عليه السلام) إِلى جبل "الطور" كانوا كلهم بمنزلة الأنبياء.
وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجى اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث، لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني إِسرائيل.
بعد هذا تشير الآية إِلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول: (وجعلكم ملوكاً...) وتعتبر هذه النعمة - أيضاً - مقدمة للنعم المعنوية، فقد عانى بنوإِسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإِرادة، بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمران(عليه السلام)وملكهم مصائرهم ومقدراتهم.
وقد ظن البعض أنّ المراد من كلمة "الملوك" الواردة في الآية هم الملوك والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بنيإِسرائيل، في حين أنّ المعروف هو أنّ بنيإِسرائيل لم يحكموا إِلاّ فترة قصيرة، فلم يحظ منهم إِلاّ القليل بمنزلة الملوكية، بينما الآية - موضوع البحث - تقول: (وجعلكم ملوكاً) وهذه إِشارة إِلى تمتع جميع بنيإِسرائيل بهذه المنزلة، ويتبيّن من هذا أنّ المراد بكلمة "ملوك" الواردة في الآية أن بنيإِسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدارتهم بعد أن كانوا مكبلين بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني.
إِضافة إِلى ذلك فإِنّ كلمة "ملك" في اللغة لها معان عديدة منها "السلطان" ومنها "المالك لزمان الأُمور" ومنها - أيضاً - المالك لرقبة شيء معين(1).
ونقل في تفسير "الدر المنثور" عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثاً جاء فيه: "كانت بنوإِسرائيل إِذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً... ".
وتشير هذه الآية في اخرها إِلى أنّ الله قد وهب بنيإِسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: (وآتاكم ما لم يؤث أحداً من العالمين) وكانت هذه النعم والوافرة كثيرة الأنواع، فمنها نجاة بنيإِسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة، وإِنفلاق البحر لهم، ونزول غذاء خاص عليهم مثل "المن والسلوى"، وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا هذا، لدي تفسير الآية (57) من سورة البقرة.
الآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إِسرائيل إِلى الأرض المقدسة نق عن لسان نبيّهم موسى(عليه السلام) فتقول: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).
وقد اختلف المفسّرون حول المراد بعبارة (الأرض القدسة) الواردة في الآية، وحول موقعها الجغرافي من العالم.
فيرى البعض أنّها أرض "بيت المقدس" حيث القدس الشريف، وآخرون يرون أنّها "أرض الشام" وفئة ثالثة ترى أنّها "الأردن وفلسطين" وجماعة أُخرى تقول أنّها أرض "الطور".
ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الإِحتمالات الواردة، لأنّ هذه الأرض - كما يشهد التاريخ - تعتبر يمهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومح لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ونشر تعاليم الأنبياء... لهذه الأسباب كلها سمّيت بـ "الأرض المقدسة" مع أنّ هذا الإِسم يطلق عن منطقة "بيت المقدس" بصورة خاصّة أحياناً (وقد بينا هذا الأمر في الجزء الأوّل من كتابنا هذا).
ويستدل من جملة (كتب الله عليكم...) إِنّ الله قد قرر أن يعيش بنوإِسرائيل في الأرض المقدسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) إِن لم يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد.
وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ تناقض بين فشل جيل من بنيإِسرائيل الذين خوطبوا بهذه الآية في دخول الأرض المقدسة، وإبتلائهم بالتيه والضياع لمدة أربعين عاماً في الصحارى والقفار، حتى نجح الجيل التالي من بعدهم بدخول تلك الأرض، لا يوجد أيّ تناقض بين ما ذكر وبين جملة (كتب الله عليكم...) لأنّ هذا التقدير الإِلهي والقرار الرباني إِنّما قيد بشروط لم ينفذها ذلك الجيل الأوّل من بنيإِسرائيل، وتوضح هذا الأمر الآيات التالية.
وقد واجه بنو إِسرائيل دعوة موسى(عليه السلام) للدخول إِلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الإِنتصارات في ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إِلى بذل جهد في هذا المجال، وردّ هؤلاء على طلب موسى(عليه السلام) بقولهم كما تنقله الآية: (قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين(2) وإِنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإِن يخرجوا منها فإِنا داخلون).
ويدل جواب بني إِسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء فإِنّ في كلمة "لن" التي تفيد التأييد دلالة على الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة ممّا أرغمهم على الإِمتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها.
وكان على بني إِسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم، أمّا لو أنّ الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة الإِلهية الطبيعية، فإِن بنيإِسرائيل بدخلوهم إِليها - في مثل هذه الحالة دون أي عناء أو مشقة - كانوا سيواجهون العجز في إِدارة تلك الأرض الواسعة الغنية، ولم يكونوا ليبدوا أيّ اهتمام بالحفاظ على شيء حصلوا عليه دون جهد أو معاناة، فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك.
أمّا المراد من عبارة (قوماً جبارين) فهم كما تدل عليه التواريخ قوم "العمالقة"(3) الذين كانوا يمتلكون أجساماً ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة، بحيث ذهب الكثير إِلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير الخرافية من ذلك، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أيّ دليل علمي، وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو بـ"عوج" في التواريخ المصطنعة المشوبة بالخرافات والأساطير.
ويبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إِلى بعض الكتب الإِسلامية، وإِنّما هي من صنع بنيإِسرائيل، والتي تسمّى عادة بـ "الإِسرائيليات" والدليل على هذا القول هو ما ورد نصاً في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير العمالقة، نقرأ في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثّالث عشر "إِن الأرض التي ذهب بنو إِسرائيل إِليها لإِستقصاء أخبارها هي أرض تبيد ساكنيها وإِن جميع من فها هم أناس طوال وفيهم العمالقة من أبناء "عناق" بشكل كان بنو إِسرائيل الذين ذهبوا للتجسس هناك أشبة بالجراد قياساً بأحجام العمالقة الموجودين في تلك الأرض!".
بعذ هذا الحديث يشير القرآن الكريم إِلى رجلين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الإِجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إِلى الدفاع عن اقتراح النّبي موسى(عليه السلام) فواجها بنيإِسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الإمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون، تقول الآية الكريمة في هذا المجال: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم اللهعليهما ادخلوا عليهم الباب فإِذا دخلتموه فإِنّكم غالبون).
وتؤكد الآية - بعد ذلك على ضرورة الإِعتماد على الله في كل خطوة من الخصوات، والإِستمداد من روح الإِيمان بقوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إِن كنتم مؤمنين).
وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما "يوشع بن نون" و"كالب بن يوحنا"
وهما من النقباء الإِثني عشر في بنيإِسرائيل، كما ورد سابقاً(4).
مع كل الإِحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة (من الذين يخافون)إلاّ أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره، ويؤيد هذا التّفسير ما جاء في جملة (أنعم الله عليهما...) فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف الإِنسان من الله وحده ولا يخشى أحداً سواه.
وقد يسأل سائل في هذا المجال عن مصدر علم هذين الرجلين، وكيف أنّهما علما أن بني إِسرائيل ستكون لهم الغلبة إِن هم دخلوا المدينة - أو الأرض المقدسة - في هجوم مباغت؟
وجوابه: لعل علم هذين الرجلين بتلك الغلبة كان نابعاً من ثقتهما بأقوال النّبي موسى(عليه السلام) أو أنّهما اعتمدا على قاعدة كلية في الحروب، مفادها أن الجماعة المهاجمة إن استطاعت الوصول إِلى مقر ومركز العدو - أي تمكنت من محاربة العدو في داره - فإِنها سنتتصر عليه(5) عادة.
والمستهدفون في تلك الحرب هم قوم المعالقة، وهم بسبب ما كانوا عليه من طول خارق، كان أسهل عليهم أن يحاربوا في بر أو فضاء مفتوح بدل الحرب في مدينة، فيها - بحسب العادة - الأزقة والطرق الملتوبة (بغضّ النظر عن الجوانب الأسطورية التي تتحدث عن الطول الخارق لهؤلاء العمالقة)، أضف إِلى ذلك كله أنّ العمالقة - كما نقل - كانوا على رغم قاماتهم الطويلة أناساً جبناء رعاديد، ييرهبهم كل هجوم مباغت، وكل هذه الأسباب أصبحت دلي قوياً لدى الرجلين المذكورين ليقولا بحتمية إنتصار بنيإِسرائيل.
والذي حصل حقيقة هو أنّ بنيإِسرائيل لم يقتنعوا بأي من الإِقتراحات المذكورة، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى(عليه السلام)وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض مادام العمالقة موجودين فيها، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن إنتصاره حيث هم قاعدون، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (قالوا يا موسى إِنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون).
وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إِليها بنوإِسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسى(عليه السلام)، فهم بقولهم "لن" و"أبداً" أكدوا رفضهم القاطع للدخلول إِلى الأرض المقدسة، كما أنّهم استخفوا بموسى(عليه السلام) ودعوته واستهزأوا بهما، بقولهم: (إِذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون...) كما أنّهم - أيضاً - لم يعيروا التفاتاً لإِقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.
والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمّة من هذه القصة، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد، حيث جاء فيها أن جميع بنيإِسرائيل لاموا موسى وهارون أخاه وقالوا جميعاً: ليتنا متنا جميعاً في أرض مصر أو في الفلاة، فلماذا جاء بنا الرّب إِلى هذه الأرض لكي نقتل بحدّ السيف، وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا... فحار موسى وأخاه هارون أمام القوم، ماذا يفعلان؟ أمّا يوشع بن نون وكاليب بن يفنة، اللذان كانا من مجموعة الرجال الذين ذهبوا للتجسس على تلك الأرض فقد شقا جيبهما... ثمّ نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم، ورفع يديه يللدعاء مناجياً ربّه قائ: إِنّه لا يملك حرية التصرف إلاّ على نفسه وأخيه، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة، لكي يلقى هولاء جزاء أعمالهم ويبادروا إِلى إِصلاح أنفسهم، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: (قال ربّي إِنّي لا أملك إِلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين).
وبديهي إِنّ رفض بنيإِسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر، وما استخدام القرآن لعبارة "الفاسق" بحق هؤلاء إِلا لأن كلمة "الفسق" لها معان واسعة، وتشمل كل خروج وإنحراف عن سنة العبودية لله، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم - حين التحدث عن إِنحراف الشيطان - قول الله تعالى: (ففسق عن أمر ربّه...)(6).
وتجدر هنا الإِشارة إِلى أنّ جملة: (من الذين يخافون...) الواردة في الآيات السابقة تدل على وجود قلة من اليهود كانت تخشى الله، ومنهم الرجلان المذكوران في إِحدى الآيات الأخيرة وهما "يوشع" و"كاليب" بينما نلاحظ أن موسى(عليه السلام) لا يذكر هنا غير نفسه وأخيه، ولا يذكر ولو حتى بالتلميح أحداً من تلك القلّة، وقد يكون السبب هو أن هارون لكونه الوصي لأخيه موسى(عليه السلام) ولكونه أبرز شخصية في بنيإِسرائيل من بعد موسى(عليه السلام)... لذلك ذكر اسمه دون غيره.
وكانت نتيجة صلف وعناد بنيإِسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إِذ استجاب الله دعاء نبيه موسى(عليه السلام)، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: (قال فإِنّها محرمة عليهم أربعين سنة...).
وزادهم عذاباً إِذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: (يتيهون في الأرض...) وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إِسرائيل باسم "التيه" أيضاً، وكانت جزءاً من صحراء سيناء، كما ذكرنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بنيإِسرائيل من عذاب في تلك المدة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى(عليه السلام) أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة: (فلا تأس على القوم الفاسقين).
وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة، هو أنّ موسى(عليه السلام) قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بنيإِسرائيل، فطلب من الله العفو لقومه - كما ورد في التوراة المتداولة - فأجابه برد سريع أوضح له أن بنيإِسرائيل يستحقون ذلك العذاب، وهم لا يستحقون العفو الإِلهي لأنّهم أُناس فاسقون وعصاة، متكبرون، ومن كان هذا شأنه سيلاقي - حتماً - مثل هذا المصير.
ويجب الإِنتباه إِلى أنّ حرمان بنيإِسرائيل من الدخول إِلى الأرض المقدسة، لم يكن له طابع للإِنتقام (كما أن جميع العقوبات الإِلهية ليس فيها طابع إنتقامي، بل هي إِما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه.
وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة، حيث تحرر بنوإِسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإِحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص، لذلك فهم لم يبدوا استعداداً لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيّهم موسى(عليه السلام) كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تهيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد، وجوابهم لموسى(عليه السلام) - الذي اشتمل على رفضهم الدخول إِلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة - خير دليل على هذه الحقيقة.
لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إِسرائيل من التيه والضياع في الصحراء، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء، محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإِلهية، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة!
1- لقد مضى تفسير هذه الآية في بداية هذا الجزء من تفسيرنا.
2- نقرأ في المصادر المسيحية أنّ "الإله الأب" هو خالق جميع الكائنات (قاموس الكتاب المقدس، الصفحة 345) كما نقرأ أنّ الرّب هو الموجود بنفسه، وإن هذا هو اسم خالق جميع المخلوقات وحاكم كلّ الكائنات، وإِنّه هو الروح اللامتناهية الأزلية الأبدية ... (قاموس الكتاب المقدس، ص 344).
3- تقول المصادر المسيحية بأنّ عبارة "ابن الله" هي فقط من ألقاب منقذ المسيحيين وفاديهم، وإِنّ هذا اللقب لا يطلق على أحد غيره إلاّ إذا دلت القرينة على أنّ المراد ليس البنوة الحقيقة لله (قاموس الكتاب المقدس، ص 345).
4- ظهرت في الآونة الأخيرة لدينا مجموعة تبشر للمسيحية وتسمّي نفسها جماعة "ابن الله".
5- تفسير الرازي، ج 11، ص 192.
6- ويرى البعض أنّ هذه الفترة تبلغ أكثر من ستمائة عام، وآخرون يرون أنّها أقل من هذه المدّة واستناداً على قول البعض فإنّ الفاصلة الزمنية بين ولادة المسيح(عليه السلام) وهجرة نبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ووفق التاريخ الميلادي تبلغ 621 عاماً و95 يوماً (تفسير ابن الفتوح الرازي، ج 4، هامش الصفحة 154).