الآيات 8 - 10

﴿يَـأيَّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّمِينَ للهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم شَنَأَنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِأَيَـتِنَآ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ الْجَحِيم﴾

التّفسير

دعوة مؤكّدة إِلى العدالة:

إِنّ الآية الأُولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إِلى تحقيق العدالة، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف.

يفتخاطب هذه الآية أوّ المؤمنين قائلة: (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط).

ثمّ تشير إِلى أحد أسباب الإِنحراف عن العدلة، وتحذّر المسلمين من هذا الإِنحراف مؤكّدة أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سبباً للإِعتداء على حقوق الآخرين، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء، فتقول الآية الكريمة: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا...) وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول (أعدلوا هو أقرب للتقوى).

وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى، تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة: (واتقوا الله إِنّ الله خبير بما تعملون).

والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء، يتحدد من عدّة جهات:

أوّلا: إِنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إِلى إِقامة العدل والشهادة لله، أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إِلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل، ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة لله، لا لأقارب وذوي الشاهد، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور.

ثانياً: أشارت الآية الواردة في سورة النساء إِلى واحد من عوامل الإِنحراف عن العدالة، بينما الآية الأخيرة أشارت إِلى عامل آخر في نفس المجال، فهناك ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل، بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبررله.

ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأُولى في جملة: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا...) لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الإِندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية، لا من دافع الحب أو الكراهية، وعلى هذا الأساس فإِنّ المصدر الحقيقي للإِنحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى، وقد جاء في كلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قولهما: "امّا إتّباع الهوى فيصدّ عن الحق"(1).

العدل ركن إِسلامي مهم:

قلما نجد قضية أعطى الإِسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل، فهي وقضية التوحيد سيان في تشعب جذورهما إِلى جميع الأُصول والفروع الإِسلامية، وبعبارة أُخرى: كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والإِجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقاً عن حقيقة التوحيد، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبداً من روح العدل.

وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحداً من أُصول العقيدة والدين، وأساساً من أُسس الفكر الإِسلامي، وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادىء المعرفة الإِلهية، إِلاّ أنّه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه، ولذلك كان ما أولته البحوث الإِجتماعية في الإِسلام من الإِهتمام بالعدل والإِعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادىء الإِسلامية الأُخرى من ذلك.

ويكفي إِيراد عدد من الأحاديث والرّوايات نماذج لدرك أهمية هذه الحقيقة:

1 - روي عن رسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إِيّاكم والظلم فإِنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة"(2).

وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور، وإِنّ الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة.

2 - وقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: "بالعدل قامت السموات والأرض"(3).

ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل، ومعناه أنّ حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل، بل إنّ حياة ووجود الكون بأكمله، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل، وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها، ووجود واستقرار كل شيء في محله منها، بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.

ويؤيد هذا القول حديث آخر هو: "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم" لأنّ للظلم أثراً سريعاً في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والإِضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والإِجتماعية والأخلاقية والأزمات الإِقتصادية التي تعمّ العالم اليوم، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.

ويجب الإِنتباه جيداً إِلى أنّ اهتمام الإِسلام لم ينصب في مجرد العدالة، بل إنّه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة، وطبيعي أنّ محض تلاوة هذه الآيات في المجالس أو من على المنابر، وكتابتها في الكتب، لا يجدي نفعاً في استعادة العدالة المفقودة، وعلاج التمييز الطبقي والعنصري، والفساد والاجتماعي في المجتمع الإِسلامي، بل إنّ عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلّى في يوم تطبق فيه العدالة في صميم حياة المسلمين.

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية التالية وتمشياً مع الأُسلوب القرآني، فأعادت إِلى الأذهان ما أعدة الله للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة، حيث تقول الآية: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم).

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكفارين الذين يكذبون بآيات الله، فقالت: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اُولئك أصحاب الجحيم).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إِطار "وعد الله" بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات الله، وما هذا إِلاّ إِشارة إِلى فضل الله ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإِنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقاً، كما أنّها إِشارة - أيضاً - إِلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبداً، بل هو نتيجة عادلة لما إرتكبه الإِنسان من أعمال سيئة في حياته.

أمّا فيما يخص معنى عبارة "أصحاب الجحيم"(4) فهي مع ما في كلمة "أصحاب" من معنى الملازمة، أي أن الكافرين والمكذبين بآيات الله يلازمون يجهنم، لكن هذه الآية لوحدها لا يمكن أن تكون دلي على مسألة "الخلود" في نار جهنم، كما جاء توضيح ذلك في تفسيري "االتبيان" و"مجمع البيان" وتفسير "الفخر الرّازي"، لأنّ الملازمة ربما تكون دائمة، وقد تستمر لفترة طويلة ثمّ تنقطع، بدلالة التعبير القرآني الوارد في شأن ركاب سفينة نوح النّبي(عليه السلام) حيث وردت فيهم عبارة "أصحاب السفينة" وهم لم يكونوا ملازمين لتلك السفينة ملازمة دائمة.

ومع انتفاء الشك حول خلود الكفار في نار جهنم، فالآية الكريمة - موضوع البحث - لم تتحدث بشيء عن هذا "الخلود" بل يستنتج هذا من آيات قرآنية أُخرى.


1- لقد أوضحنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء، بصورة مفصلة، أحكام التيمم وفلسفتها الإِسلامية وكيف أن التيمم لا يعتبر مغايراً للوقاية الصحيّة، بل فيه جانب وقائي صحي أيضاً، وكذلك حول معنى "غائط" وقضايا أُخرى فليراجع ....

2- وسائل الشيعة، ج 2، ص 969.

3- وسائل الشيعة، ج 1، ص 257.

4- ونقرأ في رواية عن الإِمام الثامن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قوله: "إنّ الجنابة خارجة من كل جسده فلذلك وجب عليه تطهير جسده كله" وفي هذه الرواية إشارة للبحث الذي تناولناه أعلاه - من وسائل الشيعة، ج 1، ص 466.