الآيتان 142 - 143
﴿إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ يُخَـدِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَـدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَيَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ يقَلِي * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَـؤُلاَءِ وَمَن ييُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِي﴾
التّفسير
لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، في عبارة قصيرة، وهي: ـ
1 - إِنّ هؤلاء - لاجل تحقيق أهدافهم الدنيئة - يتوسلون بالخدعة والحيلة، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضاً، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إِذ هم - لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة - يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: (إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم...).
ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة: (وهو خادعهم).
هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من مواطنيه، بأن ينتبهوا لكي لا يخدعهم المسافرون الغرباء، فقال أحدهم: كيف يمكن للغرباء البسطاء الذين لا يعرفون شيئاً عن وضع المدينة وأهلها، أن يخدعوا أهل الحرف فيها نحن بمقدورنا خداع اُولئك الغرباء، فأجابهم بأن قصده من الإِنخداع بالغرباء هو هذا المعنى، أي أن تنالوا من هؤلاء ثروة تافهة بالخداع، وتفقدوا بذلك ثروة الإِيمان العظيمة!
2 - إِنّ المنافقين بعيدون عن رحمة الله، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة الله والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إِليها وهم كسالى خائرو القوى، تقول الآية في هذا الأمر: (وإِذا قاموا إِلى الصّلاة قاموا كسالى...).
3 - ولما كان المنافقون لا يؤمنون باللّه وبوعوده، فهم حين يقومون بأداء عبادة معينة، إِنّما يفعلون ذلك رياءاً ونفاقاً وليس من أجل مرضاة الله، تقول الآية: (يراؤن الناس...).
4 - ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشيء من ذكر الله، فإِنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن، لأنّه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادرٌ وقليل، تقول الآية: (ولا يذكرون الله إِلاّ يقلي).
5 - إِنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة لطريقة الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّاً ولا هم يقفون إِلى جانب الكفار ظاهراً، وفي هذا تقول الآية الكريمة: (مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء...).
ويحسن هنا الإِلتفات إِلى أنّ كلمة "مذبذب" اسم مفعول من الأصل "ذبذب" وهي تعني في الأصل صوتاً خاصاً يسمع لدى تحريك شيء معلق إِثر تصادمه بأمواج الهواء، وقد اُطلقت كلمة "مذبذب" على الإِنسان الحائر الذي يفتقر إِلى الهدف أو إِلى أي خطّة وطريقة للحياة.
هذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين، كما هي إِشارة إِلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم ونطقهم، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشيء معلق يتحرك بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين، بل يحركه الهواء من أي صوب كان اتجاهه ويأخذه معه إِلى الجهة التي يتحرك فيها.
وتيبن الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم أُناس قد سلب الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبداً إِلى طريق النجاة، لأنّ الله كتب عليهم التيه والضلالة عقاباً لهم على أعمالهم.
تقول الآية الكريمة في ذلك: (يومن يضلل الله فلن تجد له سبي)، (وقد شرحنا معنى الإِضلال، وبيّنا كيف أنّه لا يتنافي مع حرية الإِرادة والإِنتخاب، وذلك في الجزء الأوّل من هذا التّفسير في هامش الآية (26) من سورة البقرة).