الآيتان 129 - 130

﴿وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلِّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * ي وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَسِعاً حَكِيماً﴾

التّفسير

العدالة شرط في تعدد الزّوجات:

نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة - التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إِلى فعل الخير والتزام التقوى - إنّها تعتبر نوعاً من التهديد للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم.

وقد يرد إعتراض وهو: إِنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إِذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟

ورداً على الإِعتراض المذكور توضح الآية (129) من سورة النساء، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإِنسان من سعي في هذا المجال فتقول الآية: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)ويتبيّن من عبارة (ولو حرصتم) هذه وجود أشخاص بين المسلمين كانوا يسعون كثيراً لتحقيق تلك العدالة المطلوبة، ولعل سعيهم ذلك كان من أجل الحكم المطلق الذي طالب المسلمين باتّباع العدل من زوجاتهم والذي ورد في الآية الثّالثة من سورة النساء، التي تقول: (...وإِن خفتم ألا تعدلوا فواحدة).

بديهي أنّ أي حكم سماوي لا يمكن أن ينزل على خلاف فطرة البشر، كما لا يمكن أن يكون تكليفاً بما لا يطاق، ولمّا كانت العلاقات القلبية تنتج عن عوامل يكون بعضها خارجاً عن إِرادة الإِنسان، لم يحكم الله بتحقيق العدالة في مجال الحبّ القلبي بين الزوجات، أمّا فيما يخص الأعمال وأسلوب التعامل ورعاية الحقوق بين الأزواج ممّا يمكن للإِنسان تحقيقه، فقد تمّ التأكيد على تحقيق العدالة فيه.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإِحدى الزوجات إِذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبّهم لهنّ جميعاً، كي لا يضيع حق الأُخريات ولا يحرن في أمرهنّ ماذا يفعلن! حيث تقول الآية: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة...).

وتحذر الآية في آخرها اُولئك الذين يجحفون في حقّ زوجاتهم، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإِصلاح والتقوى، ويعرضوا عمّا فات في الماضي، كي يشملهم الله برحمته وعفوه، فتقول الآية: (وأن تصلحوا وتتقوا فإِن الله كان غفوراًرحيماً...).

لقد وردت روايات اشتملت على مواضيع تخص مسألة تحقيق العدالة بين الزّوجات، وتبيّن عظمة هذا الحكم والقانون الإِسلامي.

من هذا الروايات ما روي عن علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الاُخرى"(1).

وروي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن أبائه(عليهم السلام) "أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن".(2)

وكان معاذ بن جبل له إمرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاُخرى؟(3) أي أيّهما يقدم أوّ في الدفن لكي يتجنب ما من شأنه أن يخدش العدل المفروض اتباعه بين الزوجات.

جواب على سؤال ضروري:

كنّا قد نوهّنا - في هامش الآية (رقم 3) من نفس هذه السورة - بأنّ بعضاً ممن ليس لهم علم استنتجوا - من ضم تلك الآية إِلى هذه الآية - أن تعدد الزوجات مشروط بتحقيق العدالة بينهنّ، وأنّه لمّا كان تحقيق العدالة أمراً غير ممكن، فلذلك قالوا بأنّ الإِسلام قد منع تعدد الزوجات.

ويفهم من الروايات الإِسلامية أنّ أوّل من طرح هذا الرأي هو "ابن أبي العوجاء" وكان من أصحاب المذهب المادي، ومن المعاصرين للإِمام الصّادق(عليه السلام)، وجاء طرحه لرأيه هذا في نقاش له مع المفكر الإِسلامي المجاهد "هشام بن الحكم" فلما أعيى "هشاماً" الجواب توجه من بلدته الكوفة إِلى المدينة المنورة "لمعرفة الجواب" فقدم على الإِمام الصّادق(عليه السلام) فتعجب الإِمام من مقدمه قبل حلول موسم الحج أم العمرة، ولكن هشاماً أخبر الإِمام بسؤال ابن أبي العوجاء، فكان جواب الإِمام الصّادق(عليه السلام) على السؤال هو أنّ المقصود بالعدالة الواردة في الآية الثّالثة من سورة النساء، هي العدالة في النفقة (وضرورة رعاية الحقوق الزوجية وأُسلوب التعامل مع الزوجة) أمّا العدالة الواردة في الآية (29)1 من ينفس السورة (والتي اعتبر تحقيقها أمراً مستحي) فالمقصود بها العدالة في الميول القلبية، (وعلى هذا الأساس فإِن تعدد الزوجات ليس ممنوعاً ولا يمستحي إِذا روعيت فيه الشروط الإِسلامية)، فلما رجع هشام بالجواب إِلى ابن ابي العوجاء حلف هذا الاخير أن هذا الجواب ليس من عندك.

ومعلوم أنّ تفسيرنا لكلمتي العدالة - الواردتين في الآية الثّالثة والآية (129) من سورة النساء - بمعنين يختلف أحدهما عن الآخر، إِنّما هو للقرينة الواضحة الواردة مع كل من الآيتين المذكورتين، لأنّ الآية الأخيرة تأمر الإِنسان يأن لا يميل مي شديداً لإِحدى زوجاته ويترك الأُخريات في الحيرة من شأنهنّ، ولهذا فهي تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا يحصل إجحاف بحق إِحداهنّ لحساب الأُخرى، مع الإِذعان باستحالة تحقق المساواة في الحب القلبي لكلا الزوجتين، أمّا في الآية الثّالثة من سورة النساء فقد ورد التصريح في أوّلها بجواز تعدد الزوجات.

أمّا الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهي تشير إِلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين - الزوج والزوجة - واستحال الإِصلاح بينهما، فإِنّهما - والحالة هذه - غير مرغمين على الإِستمرار في مثل هذه الحياة المُرّة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإِن الله العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: (يوإِن يتفرقا يغن الله ك من سعته وكان الله واسعاً حكيماً).


1- إنّ عبارة "ملّة" الواردة في الآية أعلاه تعني "الشريعة أو الدين" والفرق بين الملّة والدين أن الأُولى لا تنسب إِلى الله، أي لا يقال "ملّة الله" ويمكن أن تضاف إِلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إِلى لفظ الجلالة فيقال: "دين الله" أو "شريعة الله" كما يمكن إضافتهما إِلى النّبي أيضاً، وعبارة "حنيف" تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

2- مجمع البيان في هامش الآية الشريفة.

3- عيون أخبار الرضا، وتفسير الصافي في هامش الآية المذكورة وفي تفسير البرهان الجزء الأوّل، ص 417.