الآيتان 123 - 124

﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـبِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ مِن ذَكَر أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾

سبب النزول

جاء في تفسير مجمع البيان - وتفاسير أُخرى - أنّ المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيّهم قد بعث قبل نبيّ الإِسلام وإِن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأنّ نبيّهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه هو آخر الكتب السماوية وأكملها.

وفي رواية أُخرى، نقل أنّ اليهود كانوا يدعون أنّهم هم الشعب المختار، وأنّ نار جهنم لا تمسّهم إِلاّ لأيّام معدودات، كما ورد في سورة البقرة - الآية (80) (وقالوا لن تمسّنا النّار إِلاّ أيّاماً معدودة...) وأن المسلمين كانوا يقولون، ردّاً على كلام اليهود هذا: بأنّهم خير الأُمم لأنّ الله قال في شأنهم: (كنتم خير أُمّة أخرجت للناس...)(1) ولذلك نزلت الآية الأخيرة هذه ودحضت كل تلك الدعاوى وحددت قيمة كل شخص بما يقوم به من أعمال.

التّفسير

امتيازات حقيقية وأُخرى زائفة:

لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإِسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إِلى دعاوى وأُمنيات هذا الإِنسان مطلقاً، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإِنسان وإِيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأُمم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...)وتستطرد فتقول: (من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً).

وكذلك الذين يعملون الخير، ويتمتعون بالإِيمان، سواء أكانوا من الرجال أو النساء - فإِنّهم يدخلون الجنّة ولا يصيبهم أقل ظلم أبداً، حيث تقول الآية: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فاُولئك يدخلون الجنّة ولا يظلمون نقيراً)(2).

وبهذه الصورة يعمد القرآن إِلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبراً الإِعتبارات والإِرتباطات المصطنعة الخيالية والإِجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إِذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإِيمان بمباديء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

وفي تفسير الآية الأُولى من الآيتين الأخيرتين حديث نقلته مصادر الشيعة والسنّة، مفاده أنّ المسلمين حين نزلت هذه الآية استولى عليهم الرعب وأخذوا يبكون خوفاً، لمعرفتهم بأنّ الإِنسان معرض للخطأ ويحتمل كثيراً صدور ذنوب منه، فلو فرض عدم وجود عفو أو غفران وأن يؤاخذ كل إِنسان بجريرته، فإِنّ الأمر سيكون في غاية الصعوبة، لذلك لجؤوا إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا له أن هذه الآية قد أفقدتهم كل أمل، فأقسم النّبي لهم بالله أنّه ما جاءت به الآية هو الصحيح، ولكنه بشّرهم بأنّها ستكون خير محفز لهم للتقرب إِلى الله والقيام بالأعمال الصالحة، وإِنّ ما سيصيبهم من محن ومصائب وآلام حتى لو كانت من وخز شوكة سيكون كفارة لذنوبهم(3).

سؤال:

من الممكن أن يستدل البعض من الجملة القرآنية التالية: (ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً) على أن قضية الشفاعة ونظائرها قد اُلغيت بهذه الآية يبصورة تامّة، فيعتبرونها دلي لإِلغاء الشفاعة بصورة مطلقة.

الجواب:

لقد أشرنا سابقاً إِلى أن الشفاعة لا تعني أنّ الشفعاء من أمثال الأنبياء والأئمة والصالحين لهم جهاز أو تنظيم مستقل يقابل قدرة الله، بل الصحيح هو أنّ الشفعاء لا يشفعون لأحد إِلاّ بإِذن الله، وعلى هذا الأساس فإِنّ مثل هذه الشفاعة ستعود في النهاية إِلى الله وتعتبر فرعاً من ولاية ونصرة وعون الله.


1- نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 551.

2- إنّ عبارة "ولاُمنيّنهم" تعود إِلى المصدر "منى" على وزن "منع" وتعني قياس الشيء أو تقييمه، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى بـ "مني" فمعناها أن قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

3- تفسير التبيان، الجزء الثّالث، ص 334.