الآيات 117 - 121
﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لاََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلاَُضِلَّنَّهُمْ وَلاَُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاَْنْعَـمِ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الْشَيْطَـنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـنُ إِلاَّ غُرُوراً * أُوْلَـئِكَ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾
التّفسير:
مكائد الشّيطان:
إِنّ الآية الأُولى - من مجموع الآيات الخمس الأخيرة - تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إِليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة، وهذه الآية إِنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إِذ يتركون عبادة الله خالق ومنشىء عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إِيجابي في الوجود، بل هي - أحياناً مضللة كالشّيطان: (إن يدعون من دونه إِلاّ إناثاً وإن يدعون إِلاّ شيطاناً مريداً).
وممّا يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما "إناث" و"شيطان مريد".
وكلمة "إناث" مشتقة من المصدر "أنث" على وزن "أدب" وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن، ولهذا السبب فإنّ العرب تقول: "أنث الحديد" إذا لانّ في النار، وقد سمي جنس المرأة بـ"الاناث" لأنّها أكثر رقّة ولطفاً وليناً من الرجل.
لكن بعض المفسّرين يرى هنا - أنّ القرآن يشير في هذه الآية إِلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنماً من هذه الأصنام ووضعت له إسماً مؤنثاً.
فالصنم "اللات" سمّي هكذا ليكون مؤنثاً لكلمة لفظ الجلالة "الله"، أمّا الصنم "عزى" فهو مؤنث كلمة "أعز" وكذلك أصنام أُخرى مثل "مناة" و"نائله" وأمثالها.
بينما يرى بعض اخر من كبار المفسّرين أنّ القصد من كلمة "اناث" الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث، بل أنّ القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة، أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإِنسان، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والإِنحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنّها موجودات لا تملك الإِرادة والإِختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئاً أبداً.
أمّا كلمة "مريد" وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة "مرد" بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر، ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإِنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة.
أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل "مرود" بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.
والحقيقة أنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إِلى نوعين: بعضها ضعيف الإِرادة مطلقاً، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبيّن أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إِنّما يعيش في ضلال واضح مبين.
بعد ذلك كله تشير الآية إِلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضاً من خططه الدنيئة، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته (لعنه الله).
وفي الحقيقة فإِنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين، وبديهي أنّ من يكون بعيداً عن رحمة الله كالشيطان، يكون خاوياً من كل خير أو حسن، ولا يمكنه أن يترك خيراً أو حسناً في حياة غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهو لن يكون غير نافع فحسب، بل سيكون ضاراً أيضاً.
ثمّ تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضاً من خططه:
أوّلها: أن يأخذ من عباد الله نصيباً معيناً، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: (وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً) فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد الله، لأنّ من يستسلم لإِرادة الشيطان ويخضع له هم فقط اُولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إِيمان لهم، أو ضعاف الإِيمان.
والثّانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: (ولأُضلنهم).
والثّالثة: اشغلهم بالاُمنيات العريضة وطول الامل (ولأُمنينهم)(1).
أمّا الخطّة الرّابعة: ففيها يدعو الشيطان اتباعه إِلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: (ولأمرنّهم فليبتكن أذان الأنعام) وهذه إِشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الإِنتفاع بهذه الحيوانات.
وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإِنسان، هي ما ورد على لسانه في الآية إِذ تقول: (ولأمرنهم فليغيّرن خلق الله...) وهذه الجملة تشير إِلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإِنسان منذ خلقة إِياه - النزعة إِلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإِضافة إِلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى، ولكن وساوس الشيطان والإِنجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإِنسان عن الطريق المستقيم الصحيح، وتحرفه إِلى الطرق المعوجة الشاذة.
والشاهد على والقول أيضاً الآية (30) من سورة الرّوم، إِذ تقول: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم).
ونقل عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه فسّره بأنّ القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإِنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله(2).
وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإِنسان، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إِلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلياً، وهو أنّ أي إِنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه ولياً من دون الله، فقد ارتكب إِثماً وذنباً واضحاً إِذ تقول الآية: (ومن يتخذ الشّيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً).
والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إِعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنه لا يفعل شيئاً بالنسبة لهؤلاء غير الإِغواء والخداع: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إِلاّ غروراً)(3).
وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفراً أبداً، فتقول الآية: (اُولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً)(4).
1- المجادلة، 10.
2- المجادلة، 9.
3- تفسير نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 550، وفي كتب أُخرى للتفسير.
4- تفسير القرطبي، الجزء الثّالث ص 1955 في شرح الآية.