الآيات 110 - 112
﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَـناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾
التّفسير
لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث، ثلاثة أحكام كلية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إِلى مسائل خاصّة بالخيانة والتهمة.
1 - لقد وردت في الآية (110) من الآيات الثلاث أعلاه الإِشارة أوّلاً إِلى هذه الحقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإِذا ارتكب أحد ظلماً بحقّ نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر الله لذنبه، وكفّر عن خطيئته فيجد الله غفوراً رحيماً، حيث تقول الآية: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً).
2 - يجب الإِنتباه إِلى أنّ الآية الأُولى تشير إِلى نوعين من الذنوب، حيث جاءت فيها كلمة "سوء" وكلمة "الظلم" للنفس، ولدى النظر إِلى قرينة المقابلة، وكذلك الأصل اللغوي لعبارة "سوء" التي تعني هنا الإِضرار بالغير، يفهم من الآية أنّ أي نوع من الذنوب - سواء كانت من نوع الإِضرار بالغير، أو الإِضرار بالنفس قابلة للغفران إِذا تاب فاعلها توبة حقيقية وسعى إِلى التكفير عنها.
ويفهم - أيضاً - من العبارة القرآنية: (يجد الله غفوراً رحيماً) إنّ التوبة الحقيقية لها من الأثر بحيث يجد الإِنسان التائب نتيجتها في باطن نفسه، فمن ناحية فإنّ تأنيب الضمير الذي يخلقه إرتكاب الذّنب يزول عن المذنب التائب نظراً للغفران الذي يناله من الله الغفور، ومن جانب آخر يحسّ الإِنسان التائب بالقرب إِلى الله بسبب رحمته سبحانه وتعالى بعد أن كان يحس بالبعد عنه بسبب الذنب الذي ارتكبه.
3 - إِنّ الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة، تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة إِجمالية في الآيات السابقة، حيث تؤكّد أنّ أي ذنب يقترفه الإِنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه، إِذ تقول الآية: (ومن يكسب إِثماً فإِنّما يكسبه على نفسه...).
وفي آخر الآية تأكيد على أنّ الله عالم بأعمال العباد، وهو حكيم يجازي كل إِنسان بما يستحقه: (وكان الله عليماً حكيماً).
وبالصورة المارة الذكر فإِنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإِنّ اضرارها ستلحق أحياناً بالغير وتلحق أحياناً أُخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي، فإِنّ الذنب تعود نتيجته كلها إِلى الإِنسان المذنب نفسه، وإِن الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شيء في روح ونفس الشخص المذنب.
4 - أمّا الآية الثّالثة من الآيات الإخيرة، فهي تشير إِلى خطورة خطيئة إِتهام الناس الأبرياء، إِذ تقول: (ومن يكسب خطيئة أو إِثماً ثمّ يرم به يريئاً فقد احتمل بهتاناً وإِثماً مبيناً).
وقد قسمت هذه الآية الذنب الذي يرتكبه شخص وينسبها زوراً إِلى غيره، إِلى قسمين: سمت الأوّل بالخطيئة، والثّاني بالإِثم.
وقد قال المفسّرون الكثير في شأن الفرق بين هذين النوعين من الذنب، وأقرب الأقوال إِلى الذهن هو أنّ الخطيئة مشتقة من الخطأ، والذي يعني في الأصل: الزلل أو الذنب الذي يصدر دون قصد من صاحبه، ويكون أحياناً يمشمو بالكفارة والغرامة لكن معنى الخطيئة قد توسع تدريجياً، وأخذ يشمل كل ذنب سواء المتعمد أو غير المقصود، حيث أنّ روح الإِنسان لا تحتمل الذنب - أكان عمداً أو عن غير عمد - وحين يصدر الذنب من الإِنسان إِنّما هو في الحقيقة نوع من الزلل والخطأ الذي لا يناسب مقامه كإِنسان.
والنتيجة من هذا القول أنّ الخطيئة لها معنى واسع يشمل الذنب المتعمد والذنب الصادر عن غير عمد، أمّا كلمة "إثم" فتطلق عادة على الذنوب الصادرة عن عمد، وتعني - في الأصل - ذلك الشيء الذي يمنع الإِنسان من عمل معين، ولما كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إِلى الإِنسان فقد سميت "إثماً".
وتجدر الإِشارة إِلى أنّ الآية استخدمت كناية جميلة بالنسبة للتهمة، وهي أنّها جعلت الذنب في هذا المجال كالسهم، وجعلت نسبته إِلى الغير زوراً بمثابة رمي السهم صوب الهدف، وهذه إِشارة إِلى أنّه في حين أن تصويب السهم نحو إِنسان آخر قد يؤدي إِلى القضاء عليه، فإنّ رمي الإِنسان البريء بذنب لم يقترفه يكون بمثابة رمية بسهم يقضي على سمعته التي هي بمنزلة دمه.
وبديهي أنّ وزر وعاقبة هذا العمل تكونان في النهاية - وإِلى الأبد - على عاتق الشخص الذي ينسب التهمة زوراً إِلى غيره، وأن عبارة "احتمل" الواردة في الآية تعني أخذ على عاتقه إِنّما جاءت للدلالة على ثقل وبقاء هذه المسؤولية!
جريمة البهتان:
إِنّ اتهام إِنسان بريء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإِسلام بعنف، وإِنّ الآية المذكورة أخيراً التي وردت بهذا الشأن - بالإِضافة إِلى الروايات الإِسلامية العديدة التي إِلى جانبها - توضح رأي الإِسلام الصريح عن هذا العمل.
ينقل الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) عن أحد الحكماء أنّه قال: "أن البهتان على البريء أثقل من جبال راسيات"(1) ونقل عنه(عليه السلام) قوله: "إِذا أتهم المؤمن أخاه إنماث الإِيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء" أي أن الإِيمان يذوب ويزول من قلب المؤمن بسبب إِتهامه لأخيه المؤمن، كما يذوب الملح في الماء ويزول عن النظر(2).
فالتهمة والبهتان - في الحقيقة - هما أقبح أنواع الكذب، لأنّهما بالإِضافة إِلى احتوائهما لمفاسد الكذب، فإِنّهما أيضاً يحملان أضرار الغيبة، وهما كذلك من أسوأ أنواع الظلم والجور ولهذا السبب يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص: "من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيهما ما ليس فيهما أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج ممّا قاله"(3).
وحقيقة الأمر أن إِشاعة مثل هذا العمل الجبان - في أي محيط إِنساني كان - يؤدي في النهاية إِلى إِنهيار نظام العدالة الإِجتماعية، واختلاط الحق بالباطل، وتورط البريء وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين الناس.
1- "قيام" تارةً يأتي بمعناه المصدري، (ويعني به حالة القيام، وتارةً يأتي للجمع أي "قائمين" - و"قعود" كذلك أيضاً، فيأتي بمعنى حالة القعود والجلوس، ويأتي بمعنى "قاعدين" للجمع. وفي الآية اعلاه يحتمل كلا الأمرين.
2- للإِطلاع أكثر عن الآحاديث التي وردت في هذا المجال راجع كتاب نور الثقلين الجزء الأوّل، ص 545.
3- ويؤيد كتاب كنز العرفان، في الجزء الأوّل، ص 59، هذا المعنى، كما جاء في تفسير التبيان وفي مجمع البيان أيضاً ذكر هذا الأمر.