الآيات 97 - 99
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ يحِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِي * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفِوراً﴾
سبب النزول
لقد أنذر رؤساء قريش قبل بدء غزوة بدر جميع الأفراد من أهالي مكّة الذين يستطيعون حمل السلاح، أنّ عليهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين، محذرين بأن من يخالف هذا الأمر ستهدم داره وتصادر أمواله، وقد أدى هذا التهديد بنفر من الذين كانوا قد أسلموا في الظاهر، ولكنّهم كانوا قد رفضوا الهجرة لشدة حبهم لموطنهم ولأموالهم... أدى بهؤلاء إِلى أن يرغموا على مشاركة الوثنيين في التحرك إِلى ساحة الحرب، وراودهم الشك في إِنتصار المسلمين لقلّة عددهم، فكان أن قتلوا وهم إِلى جانب المشركين.
فنزلت الآيات المذكورة وحدثت عن المصير الأسود الذي لاقاه هؤلاء بسبب إصرارهم على البقاء في موطن الشرك.
التّفسير
تعقيباً للبحوث الخاصّة بالجهاد، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إِلى المصير الأسود الذي كان من نصيب أُولئك الذين ادعوا الإِسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإِسلام في الهجرة، فإنحرفوا إِلى مزالق رهبية، فكانت نتيجة إِنحرافهم أن أصابهم القتل وهم في صفوف المشركين.
فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقاً من المسلمين، فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين (إِنَّ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم...) فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأن ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإِلهي (قالوا كنّا مستضعفين في الأرض).
لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين: لماذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض اللّه الواسعة، (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها).
وفي النهاية تشير الآية إِلى مصير هؤلاء، فتقول بأنّ الذين امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا الكبت والقمع على الهجرة فإِن مكان هؤلاء سيكون في جهنم، وإِن نهايتهم وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة: (فأُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً).
أمّا الآية الاُخرى من الآيات الثلاث المذكورة، فهي تستثني المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين، فتقول: إنّ أُولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجاً للهجرة، ولم يتمكنوا من إِيجاد وسيلة للنجاة من محيطهم الملوث، فهم مستثنون من حكم العذاب، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة، وإِنّ الله لا يكلف نفساً ما لا تطيق، (إِلا المستضعفين من الرجال والنساء يوالولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبي).
والآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبيّن إحتمال أن يشمل الله بعفوه هؤلاء، إِذ تقول: (فأُولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً).
وقد يرد هنا سؤال وهو: لو أن هؤلاء الأشخاص كانوا في الحقيقة معذورين، فلماذا لا تعدهم الآية بعفو إلهي حتمي، بل تبين احتمال أن يشملهم هذا العفو إِذ تأتي الآية بعبارة "عسى" لتأكيد احتمالية الأمر؟
وجواب هذا السؤال هو نفس الجواب الذي ذكرناه في ذيل الآية (84) من سورة النساء والذي بيّنا من خلاله أن القصد من استخدام مثل هذه العبارات هو أن الحكم الوارد في الآية مقيد بشروط خاصّة يجب الإِلتفات إِليها، وهنا يكون الشرط هو أن يتبادر هؤلاء المستضعفون حقيقة إِلى الهجرة - دون تردد - حتى ما سنحت لهم فرصة ذلك دون أن يقصروا في هذا الأمر فعند ذلك يشملهم العفو الإِلهي.
نقاط يجب الإِلتفات إِليها:
1 - استقلال الرّوح
إِن الإِتيان بكلمة (توفى)ي في الآية الشريفة المارة الذكر بد من ذكر كلمة "الموت" إِنّما هو في الحقيقة إِشارة إِلى أنّ الموت ليس هو الفناء التام، بل هو حالة تتلقى فيها الملائكة روح الإِنسان، أي أن الملائكة يقبضون من الإِنسان روحه التي هي جوهر وجوده، فتؤخذ هذه الروح إِلى العالم الآخر، وإنّ الإِتيان بمثل هذه العبارة بصورة متكررة في القرآن الكريم، يعتبر من أوضح الأدلة القرآنية على قضية وجود الروح وبقائها بعد الموت، حيث سنتطرق إِلى ذلك لدى تفسير
الآية الخاصّة بالروح.
وإِن هذا هو جواب أولئك الذين يزعمون أنّ القرآن لم يشر مطلقاً إِلى قضية الروح(1).
2 - ملك الموت أم ملائكة الموت
لدى البحث في موارد متعددة من القرآن الكريم (أي حوالي 12 مورداً) والتي وردت فيها عبارة "توفى" وهي تتحدث عن الموت، نستنتج أن قبض الأرواح يقوم به ملائكة متعددون وليس ملكاً واحداً، وهؤلاء الملائكة هم المكلّفون بنقل أرواح بني آدم من هذه الدنيا إِلى العالم الآخر، ففي الآية المارة الذكر ورد اسم الملائكة بصيغة الجمع، وهذا هو أحد الأدلة على أن قبض الأرواح يقوم به ملائكة متعددون فنحن.
نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام قوله تعالى: (حتى إِذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا...).
وهناك من الآيات ما ينسب قبض الروح إِلى ملك الموت(2)، وهذا الملك هو كبير ملائكة قبض الروح الذي ذكر في الأحاديث باسم "عزرائيل".
ويتّضح لنا ممّا سبق جواب من يسأل عن كيفية قيام ملك واحد بقبض أرواح أناس عديدين في آن واحد وفي مناطق مختلفة.
ومع ذلك فإِننا لو افترضنا أنّ هناك ملك واحد فقط لقبض الأرواح لا العديد من الملائكة، فعند هذا الفرض لا يرد أيضاً أي معضل، والسبب هو أنّ التجرّد الوجودي لهذا الملك يقتضى أن تكون دائرة عمله ونفوذه وسيعة مترامية الأطراف بشكل خارق للعادة، لأن أي وجود مجرّد عن المادة يمكن أن تكون إِحاطته واسعة بما يخص عالم المادة - وقد نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ
النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأل ملك الموت عن كيفية إِحاطته بما في العالم، أجابه هذا الملك: "ما الدنيا عندي كلها فيما سخرها الله لي ومكنني عليها إِلاّ كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء"(3).
ولكننا نرى في بعض الآيات أن قبض الروح ينسب إِلى الله عزّ وجلّ: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)(4)، وهذا لا يتناقض مع الآيات السابقة، لأن في كثير من الحالات حين يتمّ عمل بوسيلة معينة، ينسب فعل هذا العمل تارة للوسيلة ذاتها، وأُخرى للذي أوجد وصنع هذه الوسيلة، وكلا النسبتين صحيحتان.
والطريف أنّ القرآن قد نسب فعل الكثير من أحداث العالم إِلى الملائكة الذين هم مكلفون من قبل الله سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أن لعبارة "ملائكة" أو "ملك" معاني واسعة تدور بين معنى "الموجودات المجرّدة العاقلة" إِلى معنى "الطاقات والقوى الطبيعية".
3 - من هو المستضعف؟
لدى البحث في الآيات القرآنية والأحاديث والروايات يستنتج أن المستضعف هو ذلك الشخص الذي يعاني من ضعف فكري أو بدني أو اقتصادي يمنعه من التعرف على الحق والباطل، أو أنه ذلك الذي يستطيع التعرف على العقيدة الصادقة الحقة، إِلاّ أنّه ولمعاناته من عجز جسماني أو مالي أو قيود يفرضها عليه المحيط الذي يعيش فيه، يعجز عن أداء واجباته التي كلّف بها بصورة كاملة، كما يعجز عن القيام بالهجرة.
وعن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: "ولا يقع اسم الإِستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه"(5).
وعن الإِمام موسى بن جعفر(عليه السلام) أنه حين سئل: أي قوم يقال لهم المستضعفون؟ فأجاب(عليه السلام) كتابة: "الضعيف من لم ترفع له حجة، ولم يعرف الإِختلاف، فإِذا عرف الإِختلاف فليس بضعيف"(6).
وواضح من الروايات المذكورة أنّ المستضعف هو ذلك الذي يعاني من ضعف فكري عقائدي، إلاّ أنّ الآية موضوع البحث والآية (75) من نفس هذه السورة التي سبق وأن تحدثنا فيها تدلان على أنّ المستضعف هو ذلك الذي استضعف عملياً، فهو يعرف الحق ويميزه، ولكن الكبت الذي يعاني منه في المحيط الذي يعيش فيه لا يسمح له بالعمل بالحق الذي عرفه.
1- تفسير الصافي، هامش الآية المذكورة.
2- الوسائل، كتاب الجهاد، ج 1، ص 2 و 16.
3- الوسائل، كتاب الجهاد، ج 1، ص 2 و 16.
4- نهج البلاغه، الخطبة 27.
5- لمعرفة معنى "توفى" من الناحية اللغوية يرجى مراجعة الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.
6- سورة السجدة.