الآيتان 69 - 70

﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـلِحِينَ وَحَسُنَ أَوْلَـئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً﴾

سبب النزول

كان أحد الصّحابة يدعى "ثوبان"شديد الحبّ لرسول الله قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال له النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا ثوبان ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما من مرض ولا وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك حتى ألقاك، ثمّ ذكرت الأخرة فأخاف أنّي لا أراك، وإِنّي إِن أدخلت الجنّة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإِن لم أدخل الجنّة فذاك حتى لا أراك أبداً.

فنزلت الآيتان الحاضرتان تبشران أمثال هذا بأنّ المطيعين سيكونون مع النّبيين ومن اختارهم الله وأنعم عليهم في الجنّة.

ثمّ أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمنن عبد حتى أكون أحبّ إِليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجميعن" أي يكون مسلماً لتعاليمي يوأوامري، تسليماً كام.

التّفسير

رفقاء الجنّة:

في هذه الآية يبيّن القرآن ميزة أُخرى من ميزات من يطيع أوامر الله تعالى والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي الحقيقة مكملة للميزات التي جاء ذكرها في الآيات السابقة، وهي صحبة الذين أتمّ الله نعمه عليهم ومرافقتهم: (ومن يطع الله والرّسول فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم...).

وكما أسلفنا في سورة الحمد فإِنّ الذين أنعم الله عليهم هم الذين ساروا في الطريق المستقيم ولم يرتكبوا أي خطأ، ولم يكن فيهم أي انحراف.

ثمّ يشير - لدى توضيح هذه الجملة، وتحديد من أنعم الله عليهم - إِلى أربع طوائف يشكلون في الحقيقة الأركان الأربعة لهذا الموضوع وهم:

1 - الأنبياء:

أي رسل الله تعالى الذين كانوا طليعة السائرين في سبيل هداية الناس ودعوتهم إِلى الصراط المستقيم (من النّبيين).

2 - الصّادقون:

وهم الذين يصدقون في القول ويصدقون إِيمانهم بالعمل الصالح، ويثبتون أنّهم ليسوا مجرّد أدعياء الإِيمان، بل مؤمنون بصدق بأوامر الله وتعاليمه (والصّديقون).

ومن هذا التعبير يتّضح أنّه ليس بعد مقام النبوة أعلى من مقام الصدق، والصدق هذا لا ينحصر في الصدق في القول فقط، بل هو الصدق في الفعل والعمل...

الصدق في الممارسات والمواقف، وهو لذلك يشمل الأمانة والإِخلاص أيضاً، لأن الأمانة هي الصدق في العمل كما أن الصدق أمانة في القول، وفي المقام ليس هناك صفة بعد الكفر أقبح من الكذب والنفاق والخيانة في القول والعمل (ويجب الإِنتباه - هنا - إِلى أن الصدّيق صيغة مبالغة وهي بمعنى الصادق كله، ظاهراً وباطناً).

وقد فسّر "الصدّيق" في بعض الروايات والأخبار بعلي(عليه السلام) والأئمّة من أهل البيت النّبوي(عليهم السلام)، وهذا التّفسير كما قلنا في ما سبق من باب بيان المصداق الأكمل والأوضح لهذه الآيات، فلا تفيد الحصر والقصر.

3 - الشّهداء:

الذين قتلوا في سبيل الله وفي سبيل العقيدة الإِلهية الطاهرة، أو الذين يشهدون على الناس وأعمالهم في الأخرة (والشّهداء)(1).

4 - الصّالحون:

وهم الذين بلغوا بأعمالهم الصالحة والمفيدة وبإِتّباع الأنبياء وأوامرهم إِلى مراتب عالية ومقامات رفيعة (والصّالحين).

ولهذا فسّر "الصّالحون" في رواياتنا وأحاديثنا، بالصفوة المختارة من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) وهذا هو أيضاً من باب بيان أظهر المصاديق وأوضحها كما أسلفنا في تفسير الصديقين.

والنقطة الجديرة بالتذكير هنا هي أن ذكر هذه المراحل الأربع يمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّه لابدّ لبناء المجتمع الإِنساني الصالح والسليم من: أن يبدأ الأنبياءـوهم القادة والهداة بحق الهداية، ثمّ يتبعهم المبلغون الصادقون بالقول والعمل، وهم الصاديقون الذين يصدق عملهم قولهم وفعلهم دعواهم فينشروا الحقائق في كل مكان، ثمّ بعد مرحلة البناء الفكري والإِعتقادي هذه، يقوم جماعة في وجه العناصر الفاسدة ومن يريدون الوقوف في طريق الحقّ، فيضحون بأنفسهم ويقدمون أجسادهم وحياتهم قرابين للحقّ والعدل، فيكون حاصل هذه الجهود والمساعي ظهور الصّالحين واستقرار المجتمع الطاهر السليم.

ومن الواضح البيّن أنّ على الصالحين أيضاً أن يقوموا بهذه الواجبات الثلاث أي عليهم أن يقودوا، ويبلغوا، ويضحوا لكي يبقوا على جذوة الحق متقدة، وعلى مشعل العدل مضيئاً للأجيال اللاحقة.

كما أنّه يستفاد من الآيات الحاضرة ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة مرافقة الصالحين وصحبة الرفقاء الطيبين لها من الأهمية بحيث تعتبر في الآخرة الجزء المكمل للنعم الإِلهية الكبرى التي يمنّ الله بها على المطيعين في الجنّة، فهم علاوة على كل ما يحصلون عليه من نعم وميزات سيحظون بمرافقة رفقاء كالأنبياء والصّديقين والشّهداء والصّالحين.

ولعلنا في غنى عن التذكير بأن معاشرة المطيعين لهذه الطوائف الأربع ليس معناه أنّهم في منزلتهم ورتبتهم، وإِنّهم في درجتهم من جميع الجهات، بل يعني أن لكل واحد منهم - مع معاشرة بعضهم لبعض - سهماً خاصاً (يتناسب ومقامه) من المواهب والألطاف الإِلهية، فهم كأشجار بستان واحد ووروده وأعشابه، فهي مع كونها مجتمعة متجاوزة ومع أنّها تستفيد برمتها من ضوء الشمس والمطر، ولكنها ليست متساوية في حجم الإِستفادة من تلك العناصر، كما أنّها ليست متساوية في القيمة.

ثمّ يبيّن سبحانه في الآية اللاحقة أهمية هذا الإِمتياز الكبير (أي مرافقة تلك الصفوة المختارة) إِنّ هذه الهبة من جانب الله، وهو عليم بأحوال عباده ونواياهم ومؤهلاتهم: (ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليماً)، فلا يخطىء في الإِثابة والجزاء حيث أن "ذلك" إِشارة إِلى البعيد لهذا يوحي في هذه الموارد إِلى أهمية المقام وعلوه.


1- تفسير البرهان، ج 2، ص 389.