الآيات 66 - 68
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لاََّتَيْنَـهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَـهُمْ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً ﴾
التّفسير
يتكمي للبحث السابق حول أُولئك الذين يشعرون بضيق وحرج تجاه أحكام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقضيته العادلة بعض الأحيان - يشير القرآن هنا إِلى بعض التكاليف والفرائض الثقيلة في الأُمم السالفة فيقول: (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إِلاّ قليل منهم).
أي أنّنا لم نكلّفهم بأية فريضة شاقة لا تتحمل، ولو أنّنا كنّا نكلّفهم بمثل ما كلّفنا به الأُمم السابقة (مثل اليهود الذين أمروا بأن يقتل بعضهم البعض الآخر كفارة لما إرتكبوه من عبادة العجل، أو يخرجوا من وطنهم المحبب إِليهم لذلك) كيف كانوا يتحملونه؟ إِنّهم لم يتحملوا حكماً بسيطاً أصدره النّبي في أمر سقي نخلات، ولم يسلموا لهذا القضاء العادل، فكيف ترى يمكنهم أن يقوموا بالمهمات العظيمة والمسؤوليات الجسيمة ويمروا بالإِختبارات الصعبة بنجاح، فلو أنّنا
أمرناهم بأن يقتلوا أنفسهم (أي يقتل بعضهم بعضاً) أو يخرجوا من وطنهم المحبب عندهم لما فعله إِلاّ قليل منهم.
إِنّ مسألة "الإِستعداد للقتل" تشبه - حسب قول بعض المفسّرين - مسألة "الخروج عن الوطن" من جهات عديدة، لأنّ البدن وطن الروح الإِنسانية تماماً كما أنّ الوطن مثل الجسم الإِنساني، فكما أنّ التغاضي عن ترك وطن الجسم أمر صعب، كذلك التغاضي عن الوطن الذي هو مسقط رأس الإِنسان ومحل ولادته ونشأته.
ثمّ إنّ الله سبحانه يقول: (ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) أي لو أنّهم قبلوا نصائح النّبي ومواعظه لكان ذلك من مصلحتهم، ولكان سببا لتقوية أُسس الإِيمان عندهم.
والملفت للنظر أنّ القرآن يعبّر - في هذه الآية - عن الأحكام والأوامر الإِلهية بالموعظة، وهو إِشارة إِلى أنّ الأحكام المذكورة ليست أُموراً تصب في مصلحة المشرّع (أي الله) أو تجرله نفعاً، بل هي - في الحقيقة - نصائح ومواعظ نافعة لكم، ولهذا يقول ودون تأخير: (ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) أي تقوية لإِيمانهم وترسيخاً لجذورها في نفوسهم.
ولابدّ أيضاً أن ننتبه إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الله سبحانه يقول في ختام هذه الآية (وأشد تثبيتاً) أي كلّما اجتهد الإِنسان في السير في سبيل طاعة الله وتنفيذ أوامره ازدادت استقامته وازداد ثباته، وهذا يعني أن إِطاعة الأوامر الإِلهية نوع من الرياضة الروحية التي تحصل للإِنسان من تكرارها قوة وثبات أكبر واستحكام أكثر، على غرار ما يحصل للجسم نتيجة تكرار الرياضات الجسمية والتمارين الرياضية البدنية، فيصل الإِنسان - نتيجة ذلك - إِلى مرحلة لا يمكن لأية قدرة أن تغلب قدرته أو تخدعه أو تزعزعه.
ثمّ إنّه سبحانه يبيّن - في الآية الثّانية - الفائدة الثّالثة من فوائد التسليم لأوامر الله وطاعته إِذ يقول: (وإِذاً لأتيناهم من لدناً أجراً عظيماً) أي إِذاً لأعطيناهم - مضافاً إِلى ما ذكرناه - أجراً من عندنا عظيماً، لا يعرف منتهاه ولا يدرك مداه.
ثمّ في آخر آية من هذه الآيات يشير سبحانه إِلى رابع نتيجة إِذ يقول: (ولهديناهم صراطاً مستقيماً).
ومن الواضح البيّن أنّ المراد من هذه "الهداية" ليس هو الإِرشاد إِلى أصل الدين، بل المراد الطاف جديدة يمن بها الله سبحانه على مثل هؤلاء العباد الصالحين بعنوان الثواب والهداية الثانوية، فهو يشبه ما أُشير إِليه في الآية (17) من سورة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إِذ قال: (والذين اهتدوا زادهم هدى).
وقد روي أنّه عندما نزل قوله: (ولو إِنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم...)قال رجل من المسلمين: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا.
فلما بلغ هذا الكلام إِلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إِنّ من أمتي لرجا الإِيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي"(1).
1- تفسير المنار، ج 5، ص 222.