الآيات 61 - 63

﴿وَإِذاَ قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَـفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودَاً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَـبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَـناً وَتَوْفِيقاً * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ يعَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْ بَلِيغاً﴾

التّفسير

نتائج حكم الطّاغوت:

في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إِلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إِلى الطّواغيت وحكام الجور والباطل.

ففي الآية الأُولى يقول سبحانه: (وإذا قيل لهم تعالوا إِلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً).

وفي الحقيقة يقول القرآن في هذه الآية: إِنّ التحاكم إِلى الطاغوت ليس خطأً عابراً يمكن أن يعالج ببعض التذكير، بل إِنّ الإِصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم، وإلاّ لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إِلى رشدهم على دعوة رسول الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ويعترفوا بخطأهم: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً).

ثمّ في الآية الثّانية يبيّن هذه الحقيقة، وهي أن هولاء المنافقين عندما يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم، ويواجهون طريقاً مسدودة يعودون إِليك عن اضطرار ويأس: (فكيف إِذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثمّ جاؤوك...).

ويحلفون في هذه الحالة أنّ هدفهم من التحاكم إِلى الآخرين لم يكن إِلاّ الإِحسان والتوصل إِلى الوفاق بين طرفي الدّعوي: (يحلفون بالله إِن أردنا إِلاّ إِحساناً وتوفيقاً).

وهنا لابدّ من الإِشارة إِلى نقطتين:

الأُولى: أن نرى ما هو المقصود من المصيبة التي تصيبهم؟

لا يبعد أن تكون المصيبة هي ما ينشأ من مضاعفات ومآسي وويلات من حكم الطواغيت، لأنّه لا شك في أن الحكم الصادر من الأشخاص غير الصالحين والظالمين وإِن كان ينطوي على منفعة آنية لأحد جانبي الدعوى، ولكن لا يمضي زمان إِلاّ ويوجب هذا الحكم ظهور الفساد وانتشار الظلم والجور، وسيادة الهرج والمرج وتبعثر الكيان الإِجتماعي، ولهذا فإِنّه سرعان ما تواجه هؤلاء المتحاكمين إِلى الطواغيت تبعات ومفاسد عملهم هذا، وسرعان ما يندمون على فعلهم هذا.

هذا ويحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من "المصيبة" هو الفضيحة التي تلحق بالمنافقين، أو المصائب التي تصيبهم بأمر الله سبحانه (كالمآسي والمحن الغير المتوقعة).

النّقطة الثّانية: إِنّ مقصود المنافقين من "الإِحسان"

هل هو الإِحسان إِلى طرفي الدعوى، أو إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ يمكن أن يكون مرادهم كلا الأمرين، فهم تذرعوا

بحجج مضحكة لتحاكمهم إِلى الطاغوت والرجوع إِلى الأجانب، من جملتها أنّهم كانوا يقولون: إِنّ التحاكم إِلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، لأنّ الغالب أن يحصل شجار وصياح في محضر القضاة ومن جانب المتداعيين، وذلك أمر لا يناسب شأن النّبي ولا يليق بمكانته ومحضره.

هذا مضافاً إِلى أنّ القضاء ينتهي دائماً إِلى الإِضرار بأحد الطرفين، ولذلك فهو يثير حفيظته وعداوته ضد القاضي والحاكم، وكأنّهم بأمثال هذه الحجج الواهية والأعذار الموهونة، كانوا يحاولون تبرئة أنفسهم وتبرير مواقفهم الباطلة، وادعاء أنّ تحاكمهم إِلى غير النّبي كان بهدف التخفيف عن النّبي.

وربّما اعتذروا لذلك قائلين: إِنّ هدفنا لم يكن مادياً في الأساس، بل كان التوصل إِلى وفاق بين المتداعيين.

ولكن كشف سبحانه في الآية الثّالثة النقاب عن وجههم، وأبطل هذه التبريرات الكاذبة وقال: (أُولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم).

ولكنّه سبحانه يأمر نبيّه مع ذلك أن ينصرف عن مجازاتهم وعقوبتهم فيقول: (فاعرض عنهم).

ولقد كان رسول الله يداري المنافقين ما أمكنه لأجل تظاهرهم بالإِسلام، لأنّه كان مأموراً بالتعامل معهم على حسب ظواهرهم، فلم يكن يجازيهم إِلاّ في بعض الموارد الإِستثنائية، لأنّهم كانوا بين صفوف المسلمين - في الظاهر - فكانت مجازاتهم يمكن أن تحمل على أنها نشأت من أغراض شخصية.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعظهم، وأن ينفذ إِلى قلوبهم بالقول البالغ، والعظة المؤثرة، يذكرهم بنتائج أعمالهم: (يوعظهم وقل لهم في أنفسهم قو بليغاً).