الآيات 53 - 55

﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّيُوْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـهُم مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾

التّفسير

في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا - لإِرضاء الوثنيين في مكّة واستقطابهم - إِلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عملياً إِلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه أن حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين.

1 - إِنّ اليهود ليس لهم - من جهة المكانة الإِجتماعية - تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أُمورهم، ولم يفوض الناس إِليهم حق الحكم والقضاء بينهم أبداً ليكون لهم مثل هذا العمل: (أم لهم نصيب من الملك)؟

هذا مضافاً إِلى أنّهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأن روح الإِستئثار قد استحكم في كيانهم بقوّة إِلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقّه، بل خصّوا كل شيء بأنفسهم دون غيرهم (فإِذاً لا يؤتون الناس نقيراً)(1).

فبالنظر إِلى أنّ هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية المريضة التي تسعى دائماً إِلى الإِستئثار بكل شيء لأنفسهم أو لغيرهم ممن يعملون لصالحهم، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام وأن لا يقلقوا لها.

2 - إِنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المكرمين، ولهذا تفقد أية قيمة، إنّهم إِذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم، لذلك لا يحبّون أن يناط هذا المقام الإِلهي إِلى أي أحد من الناس، ولذا يحسدون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الذين شملتهم هذه الموهبة الإِلهية وأُعطوا ذلك المقام الكريم وذلك المنصب الجليل، ولأجل هذا يحاولون بإِطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).

ثمّ أن الله سبحانه يقول معقباً على هذا: ولماذا تتعجبون من إِعطائنا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنيهاشم ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم الله سبحانه وأعطى ال إِبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى و سليمان وداود) ولكنّكم - مع الأسف - أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: (فقد آتينا آل إِبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً).

والمراد من الناس في قوله: (أم يحسدون الناس) - كما أسلفنا - هم رسول الله وأهل بيته(عليهم السلام)، لإِطلاق لفظة الناس على جماعة من الناس، وأمّا إِطلاقها على شخص واحد (هو النّبي خاصّة) فلا يصح ما لم تكن هناك قرينة على إِرادة الواحد فقط(2).

هذا مضافاً إِلى أنّ كلمة آل إِبراهيم قرينة أُخرى على أنّ المراد من "الناس" هو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، لأنّه يستفاد - من قرينة المقابلة - أنّنا إِذا أعطينا لبني هاشم مثل هذا المقام ومثل هذه المكانة - فلا داعي للعجب - فقد أعطينا لآل إِبراهيم أيضاً تلك المقامات المعنوية والمادية بسبب أهليتهم وقابليتهم.

وقد جاء التصريح في روايات متعددة وردت في مصادر الشيعة والسنة بأنّ المراد من "الناس"

هم أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقد روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في ذيل هذه الآية أنّه قال في تفسير الآية: "جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة فكيف يقرّون في آل إِبراهيم وينكرونه في آل محمّد"(3

وفي رواية أُخرى عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) يجيب الإِمام على من يسأل عن يالمحسودين في هذه الآية قائ: "نحن محسودون"(4).

وروي في الدّر المنثور عن ابن منذر والطبراني عن ابن عباس أنّه قال في هذه الآية: "نحن الناس دون الناس".

ثمّ قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً).

أي أنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إِبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإِيمان بذلك الكتاب، بل صدّ الآخرين عن الإِيمان وحال دون انتشاره، أُولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذاباً وعقوبة.

وسينتهي إِلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

دور الحسد في الجرائم:

"الحسد" يعني تمني زوال النعمة عن الآخرين سواء وصلت تلك النعمة إِلى الحسود، أم لم تصل إِليه، وعلى هذا الأساس تنصب جهود الحسود على فناء ما لدى الآخرين وزواله عنهم أم تمني ذلك، لا أن تنتقل تلك النعمة إليه.

إِن الحسد منشأ للكثير من المآسي والمتاعب الإِجتماعية، من ذلك.

1 - إِنّ الحاسد يصرف كل أو جلّ طاقاته البدنية والفكرية - التي يجب أن تصرف في ترشيد الأهداف الإِجتماعية - في طريق الهدم والتحطيم لما هو قائم، ولهذا فهو يبدد طاقاته الشخصية والطاقات الإِجتماعية معاً.

2 - إِنّ الحسد هو الدافع لكثير من الجرائم في هذا العالم، فلو أنّنا درسنا العلل الأصلية وراء جرائم القتل والسرقة والعدوان وما شابه ذلك لرأينا - بوضوح - أنّ أكثر هذه العلل تنشأ من الحسد، ولعلّه لهذا السبب شُبّه الحسد بشرارة من النار يمكنها أن تهدد كيان الحاسد أو المجتمع الذي يعيش في وسطه بالخطر، وتعرضه للضرر.

يقول أحد العلماء: إنّ الحسد من أخطر الصفات، ويجب أن يعتبر من أعدى أعداء السعادة، فيجب أن يجتهد الإِنسان لدفعه والتخلص منه.

إِنّ المجتمعات التي تتألف من الحاسدين الضيقي النظرة مجتمعات متأخرة متخلفة، والحساد - في الأغلب - عناصر قلقة وأفراد مرضى يعانون من متاعب وآلام جسدية وعصبية، وذلك قد أصبح من المسلم اليوم أن أكثر الأمراض والآلام الجسدية تنشأ من علل نفسية، فإِّننا نلاحظ الآن بحوثاً مفصلة في الطب حول الأمراض التي تختص بمثل هذه.

هذا والجدير بالذكر ورود التأكيد على هذه المسألة في أحاديث أئمّة الدين وقادة الإِسلام، ففي رواية عن الإِمام علي(عليه السلام) نقرأ قوله: "صحة الجسد من قلّة الحسد" و"العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد".

بل ووردت روايات تصرح بأن الحسد يضرّ بالحاسد قبل أن يضرّ بالمحسود، بل ويؤدي إِلى القتل والموت تدريجاً.

4 - إِنّ الحسد يعدّـ من الناحية المعنوية - من علائم ضعف الشخصية وعقدة الحقارة، ومن دلائل الجهل وقصر النظر وقلّة الإِيمان، لأنّ الحاسد - في الحقيقة - يرى نفسه أعجز وأقل من أن يبلغ ما بلغه المحسود من المكانة أو أعلى من ذلك، ولهذا يسعى الحاسد إِلى أن يرجع المحسود إِلى الوراء، هذا مضافاً إِلى أنّه بعمله يعترض على حكمة الله سبحانه واهب جميع النعم وجميع المواهب، وعلى إِعطائه سبحانه النعم إِلى من تفضل بها عليه من الناس، ولهذا جاء في الحديث الشريف عن الإِمام الصادق(عليه السلام) "الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً"(5).

فهذا هو القرآن الكريم يصرّح بأنّ أوّل جريمة قتل اُرتكبت في الأرض كان منشؤها الحسد(6).

وجاء في نهجالبلاغة عن الإِمام علي(عليه السلام) أنّه قال: "إِنّ الحسد يأكل الإِيمان كما تأكل النار الحطب"(7) وذلك لأنّ الحاسد يزداد سوء ظنه بالله وبحكمته وعدالته شيئاً فشيئاً، وهذا الأمر يؤدي به إِلى الخروج عن جادة الإِيمان.

إِنّ آثار الحسد وأضراره المادية والمعنوية وتبعاته الفردية والإِجتماعية كثيرة جدّاً، وما ذكرناه إِنّما هو في الحقيقة جدول سريع عن بعض هذه الآثار والمضار.


1- تفسير المنار، ج 3، ص 35، وذهب البعض إِلى أنه مصدر استعمل بالمعنى الوصفي وصيغة المبالغة.

2- تفسير التبيان، وتفسير روح المعاني.

3- "النقير" مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شيء بحيث يوجد فيه ثقباً واشتق منه المنقار، وقال بعض: النقير وقبَة صغيرة جدّاً في ظهر النّواة ويضرب به المثل في الشيء الطفيف.

4- الناس اسم جمع ويؤيد ذلك ضمير الجمع الراجع إليه في الآية.

5- تفسير البرهان، ج 1، ص 376، وقد جاء في تفسير روح المعاني حديث مشابه لهذا الحديث في المضمون (روح المعاني، ج 5، ص 52).

6- المصدر السابق.

7- متسدرك الوسائل، ج 2، ص 327.