الآيتان 49 - 50

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَلاَ ييُظْلَمُونَ فَتِي * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً﴾

سبب النزول

روي في كثير من التفاسير في ذيل هذه الآية أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم أُموراً وامتيازات، فهم - كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم - كانوا يقولون: (نحن أبناء الله) وربّما قالوا: (لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى) (الآية (18) من سورة المائدة، والآية (111) من سورة البقرة) فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.

التّفسير

تزكية النفس(1):

قال تعالى في الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين: (ألم تر إلى الذين يزكّون أنفسهم) وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وادعاء الفضيلة لها.

ثمّ يقول سبحانه: (بل الله يزكي من يشاء) فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقاً لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشئية البالغة، وليس اعتباطاً أو عبثاً.

ولذلك فهو لا يظلم أحداً مقدار فتيل: (يولا يظلمون فتي)(2).

وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها الله سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقاً من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.

إِن هذا الخطاب وإِن كان موجهاً إِلى اليهود والنصارى الذين يدعون لأنفسهم بعض الفضائل دونما دليل، ويعتبرون أنفسهم شعوباً مختارة فيقولون أحياناً: (لن تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة)(3) ويقولون تارة أُخرى: (نحن أبناء الله وأحباؤه)(4) إلا أنّ مفهومه لا يختص بقوم دون قوم، وجماعة دون جماعة، بل يشمل كل الأشخاص أو الأُمم المصابة بمثل هذا المرض الوبي، وهذه الصفة الذميمة.

إِنّ القرآن يخاطب جميع المسلمين في (سورة النجم - الآية 32) فيقول: (فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).

إِنّ مصدر هذا العمل هو الإِعجاب بالنفس والغرور، والعجب الذي يتجلى شيئاً فشيئاً في صورة امتداح الذات وتزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف إِلى التكبر والإِستعلاء على الآخرين.

إِنّ هذه العادة الفاسدة - مع الأسف - من العادات الشائعة بين كثير من الشعوب والفئات والأشخاص، وهي مصدر الكثير من المآسي الإِجتماعية والحروب وحالات الإِستعلاء والاستعمار.

إِنّ التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على الشعوب والأُمم الاُخرى تحت وطأة هذا الشعور والإِحساس الكاذب، ولهذا يكانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين، وتتخذهم لأنفسها خو وعبيداً.

لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والإِنحطاط والفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم "العنصر الأعلى" بل وكانت هذه الحالة سائدة حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى.

ولقد تسبب الإِحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإِسرائيلي في وقوع الحروب العالمية أو الحروب المحلية.

ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإِسلام يعانون - أيضاً - من هذا الإِحساس والشعور الخاطىء وهذا الوهم، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام حقائق الإِسلام، ولهذا السبب شدد القرآن الكريم النكير - في الآية اللاحقة الثانية - على هذا التصور وشجب هذا الوهم، وهم التفوق العنصري، ويعتبره نوعاً من الكذب على الله والإِفتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنباً بيّناً إِذ يقول سبحانه: (انظر كيف يفترون على الله الكذب، وكفى به اثماً مبيناً) أي أنظر كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إِلى الله من ناحية أُخرى، تكذب على الله، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلاّ هذا لكفى في عقوبتهم.

يقول الإِمام علي(عليه السلام) في حديثه المعروف لـ "همام" الذي يذكر فيه صفات المتقين:

"لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشتفقون إِذا زكى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي من نفسي، اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ما يظنون، واغفرلي ما لا يعلمون".


1- الشورى، 25.

2- هود، 114.

3- يزكّون من مادة "تزكية" بمعنى تطهير، وتأتي احياناً بمعنى التربية والتنمية، ففي الحقيقة اذا كانت التزكية مقترنة بالعمل فإنّها تعتبر امراً محموداً، وإلاّ لو كانت مجرّد ادّعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.

4- الفتيل في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة جداً، وأصله من مادة "فتل" بمعنى البرم.