الآيتان 41 - 42

﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاَءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْتُسَوَّى بِهِمُ الاَْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾

التّفسير

شهود يوم القيامة:

تعقيباً على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين.

جاءت هذه الآية تشير إِلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول: (فكيف إذا جئنا من كل أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)وهكذا يكون نبي كل أُمّة شهيداً عليها، مضافاً إِلى شهادة أعضاء الإِنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته، ويكون نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخر أنبياء الله ورسله وأعظمهم، شاهداً على أُمّته أيضاً، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إِنكار حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

ثمّ إنّ نظير هذا المضمون قد جاء أيضاً في عدّة آيات قرآنية أُخرى، منها الآية (143) من سورة البقرة، والآية (89) من سورة النحل، والآية (78) من سورة الحج.

والآن يطرح هذا السؤال، وهو: كيف تتمّ شهادة الأنبياء على أعمال أممهم، وكيف تكون؟

إِذا كانت كلمة "هؤلاء" إِشارة إِلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع البيان، فإِن الجواب على هذا السؤال يكون واضحاً، لأنّ كل نبيّ ما دام موجوداً بين ظهراني أُمّته فهو شاهد على أعمالهم، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأُمّة، ولهذا جاء في حق المسيح(عليه السلام)أنّه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إِيّاه: (ما قلت لهم إِلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم، وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)(1).

ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة "هؤلاء" إِشارة إِلى شهود الأُمم السابقة، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيداً على شهداء الأُمم من الأنبياء، وقد أُشير في بعض الروايات إِلى هذا التّفسير(2) وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا: إِنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أُمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية، وهكذا الحال بالنسبة إِلى رسول الإِسلام، فإِنّ روحه الطاهرة ناظرة - عن هذا الطريق أيضاً - على أعمال أُمّته وجميع الأُمم السابقة، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم، بل وحتى الصلحاء من الأُمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الإِطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدء الخلق، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح، لأنّ الآية المذكورة تقول: إِنّ المسيح لم يكن شاهداً على أُمّته جمعاء، بل كان شاهداً عليها مادام في الحياة (فتأمل).

أمّا إِذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية، يعنى أن تكون أعمال "فرد نموذجي" مقياساً ومعياراً لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خالياً عن أي إِشكال، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأُمّته، إِذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له، وحيث إن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أعظم الأنبياء والرسل الإِلهيين كانت صفاته وأعماله معياراً لشخصية كل الأنبياء والرسل.

نعم لا يبقى هنا إِلاّ سؤال واحد هو: هل جاءت الشهادة بهذا المعنى، أم لا؟ بيد أنّه مع الإِنتباه إِلى أنّ أعمال الرجال المنوذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عملياً على أنّه من الممكن أن يرقى إِنسان ما إِلى هذه الدرجة، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيداً في النظر.

عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه، أي عندما رأوا بأُمّ أعينهم تلك المحكمة الإِلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إِنكار شهاداتهم، إِنهم يندمون ندماً بالغاً لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا تراباً أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إِذ يقول سبحانه: (يومئذ يودُّ الذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوى بهم الأرض).

وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إِذ يقول تعالى: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً).

ولكن لفظة (لو تسوى) تشير إِلى مطلب آخر أيضاً، وهو: إِنّ الكفار مضافاً إِلى أنّهم يتمنون أن يصيروا تراباً، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضاً وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.

إِنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئاً: (ولا يكتمون الله حديثاً) لأنّه لا سبيل إِلى الإِنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.

نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأُخر التي تقول: هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضاً ويكذبون(3) لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إِقامة الشهود وقيام الشهادة، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل إِلى أي إِنكار، بل لابدّ من الإِعتراف بجميع الحقائق.

وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض خطبه أنّه قال عن يوم القيامة "ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً".(4)

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من (لا يكتمون الله حديثاً)أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصاً في ما يتعلق برسول الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفاً على جملة (لو تسوى بهم الأرض).

ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر "لا يكتمون" الذي هو فعل مضارع، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: "لم يكتموا".


1- "مختال" من مادة "خيال" حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيماً وكبيراً، وسمي الخيل يخي لأن مشيته تشبه مشية المتكبر، "فخور" من مادة "فخر" والفرق بينها وبين الأُولى ان المختال اشارة إِلى تخيلات الكبر في مجالها الذهني والاُخرى يراد بها الاعمال الصادرة عن كبر في المجال الخارجي.

2- البقرة، 268.

3- المائدة، 117.

4- راجع تفسير نور الثقلين والبرهان في ذيل الآية.