الآيات 37 - 39
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَـنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً﴾
التّفسير
الإِنفاق رياءً والإِنفاق قربةً: الآية الأُولى من هذه الآيات الثلاث - هي في الحقيقة - تعقيب على الآيات السابقة وإِشارة إِلى المتكبرين إِذ تقول: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)هذا مضافاً إِلى أنّهم يسعون دائماً أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئاً (ويكتمون ما أتاهم الله من فضله).
ثمّ يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: (واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أن"البخل" ينبع في الغالب من الكفر، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإِيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإِلهية العظيمة للمحسنين.
إِنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إِليهم يجرّ إِليهم التعاسة والشقاء.
وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والإِستكبار هو العذب المهين.
ثمّ إنّه لابدّ من الإِلتفات إِلى أنّ البخل لا يختص بالأُمور المالية، بل يشمل كل نوع من أنواع الموهبة الإِلهية، فثمّة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة في المجال المالي، ولكنّهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأُمور الاُخرى من هذا القبيل.
ثمّ إن الله سبحانه يذكر صفة أُخرى من صفات المتكبرين إِذ يقول: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإِنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا الله سبحانه، ولهذا فإِنّهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك الإِستحقاق، بل يفكرون دائماً في أنّه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إِنفاقاتهم ويحققوا ما يطمحون إِليه من أغراض شخصية، وأهداف خاصّة، كتقوية نفوذهم وتكريس يموقعهم في المجتمع مث، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولهذا السبب يفتقر إِنفاقهم إِلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإِنفاق، بل دافعهم هو الوصول إِلى الشّهرة والشّخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل، وهذا هو أيضاً من آثار التكبر ونتائج الأنانية.
إِنّ هؤلاء اختاروا الشّيطان رفيقاً وقريناً لهم: (من يكن الشّيطان له قريناً فساء قريناً) إِنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشّيطان، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إِنّه هو الذي يقول لهم: إِنّ الإِنفاق
بإِخلاص يوجب الفقر (الشّيطان يعدكم الفقر)(1) ولهذا فإمّا أن يبخلوا ويمتنعوا عن الإِنفاق والبذل (كما أُشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنّهم ينفقون إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أُشير إِلى ذلك في الآية الحاضرة).
من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السيء من الأثر في مصير الإِنسان، ذلك الأثر الذي ربّما يبلغ في آخر المطاف إِلى السقوط الكامل.
كما يستفاد أنّ علاقة "المتكبرين" بـ"الشيطان والأعمال الشيطانية" علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية، ذلك لأنّهم اختاروا الشيطان قريناً ورفيقاً لأنفسهم.
وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم الله...) أي شيء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إِلى جادة الصواب وأنفقوا ممّا رزقهم الله من الخير والنعمة في سبيل الله، بإِخلاص لا رياء، وكسبوا بذلك رضا الله، وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟
فلماذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولماذا ترى يتركون طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقاً أُخرى لا تنتج سوى الشقاء، ولا تنتهي بهم إِلاّ إِلى الضرر والخسران؟
وعلى كل حال فإِنّ الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا: (وكان الله بهم عليماً).
والجدير بالإِنتباه أنّ الإِنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول الإِنفاق مراءاة نُسب إِلى الأموال "ينفقون أموالهم"، وفي هذه الآية نسب إِلى (ممّا رزقهم الله)، وهذا التفاوت والإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون إِشارة إِلى ثلاث نقاط:
أوّلا: إِنّه في الإِنفاق رياء لا تلحظ حلّية المال وحرمته، في حين تلحظ في الإِنفاق لله حلّية المال وأن يكون مصداق(ممّا رزقهم الله).
ثانياً: إِنّه في الإِنفاق رياء حيث أنّهم يحسبون أنّ المال الذي ينفقونه خاص بهم، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمنّ، في حين أنّ المنفقين لله حيث يعتقدون بأنّ الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال، وأنّه لا مجال للمنّ إِذا هم أنفقوا شيئاً من ذلك، ولذلك يمتنعون من الكبر والمنّ.
ثالثاً: إِنّ الإِنفاق رياء ينحصر غالباً في المال، لأنّ أمثال هؤلاء محرمون من أي رأسمال معنوي لينفقوا منه، ولكن الإِنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل المواهب الإِلهية من المال، والعلم والجاه، والمكانة الإِجتماعية وما شابه ذلك من الأُمور المادية والمعنوية.
1- غمص الناس: احتقرهم واستصغرهم ولم يرهم شيئاً. انظر لسان العرب (غمص).