الآيتان 13 - 14

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾

التّفسير

"الحدود" جمع حدّ، ويعني في أصل اللّغة لمنع، ثمّ اُطلق على كلّ حائل وحاجز بين شيئين يفصل بينهما ويميز، فحدّ البيت والبستان والدّولة يراد منه الموضع الذي يفصل هذه النقطة عن غيرها من النقاط الاُخرى.

هذا ولقد بدأت الآية الأُولى من هاتين الآيتين بالإِشارة إِلى قوانين الإِرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة "تلك" إِذ قال سبحانه: (تلك حدود الله) أي تلك حدود الله التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد، فإِن من تعدى هذه الحدود كان عاصياً مذنباً.

وقد وردت هذه العبارة (تلك حدود الله) في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وقد جاءت دائماً بعد ذكر سلسلة من الأحكام والقوانين والمقررات يالإِجتماعية، ففي الآية 187 من سورة البقرة مث تأتي هذه العبارة بعد الإِعلان عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الإِعتكاف، وبعد ذكر سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصوم، كما جاءت في الآيات (229 و 230) من سورة البقرة، والآية (10) من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق، وفي الآية (رقم 4) من سورة المجادلة بعد بيان كفارة "الظهار".

وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين مُنع من تجاوزها، ولهذا وصفت بكونها "حدود الله"(1).

ثمّ بعد الإِشارة إِلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، وهو بذلك يشير إِلى النّتيجة الأُخروية للإِلتزام بحدود الله واحترامها، ثمّ يصف هذه النتيجة الأُخروية بقوله: (وذلك هو الفوز العظيم).

ثمّ يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية، وتجاوز الحدود الإِلهية إذ يقول: (ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها).

على أنّنا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب الأبدي في النار، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإِنكار لآيات الله، وفي الحقيقة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يستبعد هذا المعنى إِذا لاحظنا أن "حدود" يجمع، وهو مشعر بأن يكون التعدي شام لجميع الحدود والأحكام الإِلهية، لأن الذي يتجاهل كل القوانين الإِلهية لا يؤمن بالله عادة، وإِلاّ فإِنّه يحترم ولو بعضها - على الأقل.

إِنّ الملفت للنظر في الآية السابقة أنّ الله تعالى عبّر عن أهل الجنّة بصيغة الجمع حيث قالى تعالى: (خالدين فيها) بينما عبر عن أهل النّار بصيغة المفرد حيث قال (خالداً فيها).

إِنّ هذا التفاوت في التعبير - في الآيتين المتلاحقتين - شاهد واضح على أن لأهل الجنّة إِجتماعات (أو بعبارة أُخرى أنّ هناك حالة إِجتماعية بين أهل الجنّة ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنّة، ينعم بها ساكنوها وأصحابها، بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفاً عن هذا، فكل واحد من أهل النار مشغول بنفسه - لما فيه من العذاب - بحيث لا يلتفت إِلى غيره، ولا يفكر فيه، بل هو مهتم بنفسه، يعمل لوحده، وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي والموقف، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل، في هذه الدنيا أيضاً، فالفريق الأول يمثل أهل جهنم، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنّة.

ميزات قانون الإِرث الإِسلامي:

في قانون الإِرث عموماً، وفي نظام الإِرث الإِسلامي خاصّة مزايا نشير إِلى قسم منها في مايلي:

1 - في نظام الإِرث الإِسلامي، وفي ضوء ما أقرّ من الطبقات للورثة لا يحرم أي واحد من أقرباء المتوفى من الإِرث، فليس في الإِسلام ما كان متعارفاً (أو لايزال) عند العرب الجاهليين، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان النساء والأطفال من الإِرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في الحروب وما شاكل ذلك، بل يشمل نظام الإِرث الإِسلامي كل من يمتّ إِلى المتوفى بوشيجة القربى.

2 - يلبي هذا النظام الحاجات الإِنسانية الفطرية والمشروعة، لأنّ كل إنسان من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كدّه وكدحه بيد من يعتبره إمتداداً لوجوده وشخصيته، ولهذا يكون سهم الأبناء - حسب هذا النظام - أكثر من سهام غيرهم، في حين تكون سهام الآباء والأُمهات وغيرهم من الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاماً وأنصبة محترمة وجديرة بالإِهتمام أيضاً.

3 - إِنّ هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من الفعالية في سبيل تحصيل الثروة، وتشغيل عجلة الإِقتصاد.

وذلك لأنّ الإِنسان إِذا عرف أنّ نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه طوال حياته ستنتقل إِلى من يحبّهم ويودّهم، فإِنّه يتشجع على المزيد من العمل والنشاط مهما كان عمره وسنه، ومهما كانت ظروفه وملابساته، وبهذا لا يحدث أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقاً.

وقد أشرنا في ما مضى - كيف أنّ إِلغاء قانون الإِرث والتوارث في بعض البلاد، وتأميم أموال الموتى، وحيازتها من قبل الدولة أدى إِلى آثار سيئة في المجال الإِقتصادي، وظهر في صورة ركود إِقتصادي مخيف دفع بالدولة إِلى إِعادة النظر في إلغاء قانون الإِرث وحذفه.

4 - إِنّ قانون الإِرث الإِسلامي يمنع من تراكم الثّروة، لأنّ هذا النظام يقضي بتقسيم الثّروة - بعد كلّ جيل - بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة، وهذا ممّا يساعد على تفتيت الثروة، كما يساعد على التوزيع العادل لها.

هذا والجدير بالإِهتمام أنّ هذا التقسيم لا يعاني ممّا تعاني منه بعض الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة، والتي ترافق غالباً سلسلة من المضاعفات والآلام الإِجتماعية السيئة، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع برحمته، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.

5 - إِنّ الأسهم والأنصبة في قانون الإِرث الإِسلامي لم تنظم على أساس الإِرتباط والإِنتساب إِلى المتوفى برابطة النسب خاصّة، بل على أساس الحاجات الواقعية عند الورثة، فإِذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما ترثه الإِناث، أو يرث الإب - في بعض الموارد - أكثر من الأُمّ، فهو لأجل أنّ الرجال يتحملون مسؤولية مالية أكبر في النظام الإِسلامي، ولأنّ عليهم أن يتحملوا الإِنفاق على زوجاتهم وعوائلهم، ولهذا لابدّ أن يسهم لهم - في الإِرث - أكثر من الإِناث.

ما هو العول، وما هو التعصيب؟:

في كتاب الإِرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان "العول"، والآخر تحت عنوان "التعصيب" وهما حالتان تعرضان لمسألة الإِرث عندما تكون الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحياناً، أو أكثر أحياناً أُخرى.

وللمثال نقول: إِذا ترك الميت أُختين من جانب الأب والأُمّ، وزوجاً، ورثت الأُختان ثلثي المال وورث الزوج النصف، فيكون المجموع 67 أي بزيادة 61 على مجموع المال، وهنا يطرح السؤال التالي وهو: ننقص هذا السدس الزائد 61 من جميع الورثة - حسب سهامهم - وبصورة عادلة، أم يجب أن تنقص من نصيب أشخاص معينين خاصّة؟

المعروف عن علماء السنة أنّهم يذهبون إِلى إِدخال النقص على جميع يالورثة، وسمّى الفقهاء هذا القسم عو، لأن العول يعني في اللغة الإِرتفاع والزيادة.

ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة: إنّ السدس الزائد يجب أن يقسم على الجميع، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه(2)، وهكذا يكون العمل في الموارد الاُخرى، وفي الحقيقة ينزل الورثة - هنا - منزلة الغرماء الذين لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعاً وبصورة كاملة، فهنا يدخل النقص على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهباً آخر، فهم يدخلون النقص على أشخاص معنيين، لا على جميع الورثة.

يفهم في المثال الحاضر، مث يدخلون النقص على الأُختين، ويقولون كما جاء في حديث شريف: "إن الذي أحصى رمل عالج - أي المتراكم من الرمل الداخل بعضه في بعض - ليعلم أن السهام لا تعول" أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول إِلى الكسر، فلابدّ أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانوناً، وذلك هو أن بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر كالزوج والزوجة والأب والأُمّ، ومن ليس سهم كذلك كالأُختين والبنتين، ومن هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائماً على من ليس له سهم محدد في جانب القلّة أو الكثرة (أي الذي ليس له حدّ أقل أو حدّ أكثر معين) أي الذي يكون عرضة للتغير والإِضطراب، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج، فهو يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول، وإِنّما يدخل النقص على سهم الأُختين فقط (فلاحظ ذلك بدقّة).

وقد يكون مجموع الأسهم أقلّ من مجموع المال - فيفضل شيء من المال بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه.

ييفمث إِذا توفي رج وخلف بنتاً واحدة وأُمّاً، فإِن سهم الأم هو 61 وسهم البنت هو 63 فيكون مجموع الأسهم هو 64 أي يفضل 62 من المال، في هذه الصورة يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إِلى إِعطاء هذا الفاضل من التركة إِلى عصبة الميت(3) وهم رجال الطبقة الثانية من الإِرث (كالأُخوة) ويسمى هذا القسم بالتعصيب.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إِلى أنّ ذلك الفاضل يجب أن يقسّم بين الوارثين المذكورين أي بنسبة 1 و 3، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إِلى الطبقة اللاحقة، هذا مضافاً إِلى أن إِعطاء الفاضل من التركة إِلى رجال الطبقة اللاحقة يشبه ما كان سائداً في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإِرث.

هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة، وقد أعطينا هنا خلاصة موضحة منه تبعاً للحاجة، وأما التفصيل فموكول إِلى محله في الكتب الفقهية المفصّلة.


1- مجمع البيان.

2- لقد مرّ حول "حدود الله" وتفسيره بحث أكثر تفصي في المجلد الثاني من هذا التّفسير.

3- فتكون طريقة الحساب هنا هي أنّنا يجب أن ننقص 61 من سهم الأُختين الذي هو 64 وسهم الزوج الذي هو63 بمقدار أسهمهم أي نقسم 61 على 7 أقسام فننقص من سهم الأختين بمقدار 4، ومن الزوج بمقدار 3، وذلك طبقاً لقانون "الإِسهام بالنسبة" المذكورة في الرياضيات فتكون النتيجة أنه ينقص من سهم الأختين بمقدار 424 ومن سهم الزوج بمقدار423.