الآيات 196 - 198

﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـدِ * مَتَـعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ * لَـكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّـتٌ يتَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا نُزُو مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلاَْبْرَارِ﴾

سبب النزول

كان أكثر مشركي مكّة أهل تجارة، وقد كانوا يحصلون من هذا الطريق على ثروة ضخمة، يتنعمون بها، وهكذا كان يهود المدينة أهل تجارة، وكانوا يعودون من رحلاتهم التّجارية على الأغلب موفورين، في حين كان المسلمون بسبب أوضاعهم الخاصّة، لا سيما بسبب الهجرة، والحصار الذي كان مشركو مكّة قد فرضوه عليهم، يعانون من وضع إِقتصادي صعب جداً، وبكلمة واحدة كانوا يعيشون في عسرة شديدة.

فكانت مقارنة هاتين الحالتين تطرح على البعض السّؤال التالي: كيف يتنعّم أعداء الله في العيش الرخي، بينما يقاسي المؤمنون ألم الجوع والفقر المدقع؟

فنزلت الآيات الحاضرة تجيب على هذا التساؤل(1).

التّفسير

سؤال مزعج:

السّؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض يالمسلمين في عصر النّبي يعتبر سؤا عاماً يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان.

فإِنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطّغاة، والفراعنة والفسّاق، ويرفلون في النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية، والرخاء العريض، ويقيسونه - غالباً - بحياة الشدّة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم أُولئك العصاة - مع ما هم عليه من الإِثم والفساد والجريمة - بمثل تلك الحياة الرخية، بينما يعيش هؤلاء - مع ما هم عليه من الإِيمان والتقوى والصلاح - في مثل هذه الشدّة والعسرة، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإِيمان إِلى الشك والتّردد.

ولو أنّنا درسنا هذا السؤال بصورة دقيقة وجيدة، وحللنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت هذه الآيات إِلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشيء من التأمل والفحص.

تقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (لا يغرّنّك تقلب الذين كفروا في البلاد)والمخاطب في هذه الآية وإِن كان شخص النّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إِلا أنه من الواضح البيّن أن المراد هو عموم المسلمين.

ثمّ تقول: (متاع قليل) أي أنّ هذه النّجاحات المادية التي يحرزها المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل، ولذّة عابرة.

(ثمّ مأواهم جهنم وبئس المهاد) فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة، فإنّ مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إِلى مصير مشؤوم، ذلك هو الجحيم الذي ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إِنّ هذه الآية تشير - في الحقيقة - إِلى نقطتين:

الأُولى: إِنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة، ومحدودة أيضاً.

وأفضل شاهد على هذا الموضوع هو ما نلاحظه في حياة المسلمين وحياة أعدائهم ومناوئيهم في صدر الإِسلام.

فحيث أنّ الحكومة الإِسلامية كانت آنذاك في بداية أمرها كنبتة شابّة لا تمتلك كل عناصر القوّة والمنعة لم تكن تملك القدرة الكاملة على الدفاع عن حوزتها وكيانها أمام هجوم أعدائها الألداء الذين كانوا يهاجمونها بشراسة ودونما رحمة، وخاصّة أنّ هجرة المسلمين الذين كانوا جماعة قليلة في مكّة جعلتهم في وضع حرج جدّاً إِلى درجة أنّهم فقدوا كل شيء في الهجرة، ولا يختص مثل هذا الوضع بهم، بل يتعرض لمثل هذه المعاناة ومثل هذا الوضع كل من يناصر ثورة تغييرية، ونهضة معنوية وروحية جذرية في مجتمع فاسد يراد تغييره بها.

يولكننا نعلم أنّ هذا الوضع لم يدم طوي، فما لثبت الحكومة الإِسلامية إِلاّ أن ترسخت جذورها وقويت دعائمها، واشتدّ أمرها، وقويت شوكتها، وانحدرت الأموال إِلى مركز الإِسلام من كل صوب وحدب، فانعكس الوضع تماماً، إِذ عاد المترفون الكافرون والأعداء المتنعمون الذين كانوا يرفلون في النعيم والخير مساكين وفقدوا كل ذلك النعيم، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه: (متاع قليل).

الثّانية: إِن النّجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إِنّما هي لكونهم لا يتقيدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل يسبيل، سواء كان مشروعاً أم غير مشروع، حراماً كان أم حلا، بل إنّهم يجوزون لأنفهسم اكتناز الثروة حتى على حساب الضعفاء والفقراء وامتصاص دمائهم، في حين يتقيد المؤمنون بمبادىء الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوغون لأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق، ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء.

هؤلاء يشعرون بالمسؤولية الثّقيلة، وأُولئك لا يشعرون بأية مسؤولية، ولا يعترفون بأي ضابطة، وحيث إن الحياة الحاضرة حياة الإِرادة البشرية الحرّة، وعالم الإِختيار الحر، كان طبيعياً أن يترك الله سبحانه كلتا الطائفتين أحراراً ليتصرفوا كيف شاؤوا، ولينتهوا في المآل إِلى نتائج أعمالهم التي اكتسبوها بأيديهم، وهو ما يقصده ويعنيه سبحانه، بقوله في ختام هذه الآية: (ثمّ مأواهم جهنم وبئس المهاد).

معرفة نقاط الضّعف والقوّة معاً:

ثمّ أن هناك سبباً آخر لتقدم ونجاح بعض الكفار والفاسقين، وتأخر بعض المؤمنين هو أن الطائفة الأُولى رغم خلوهم من عنصر الإِيمان يتحلون - أحياناً - ببعض نقاط القوّة التي يحققون في ظلّها ما يحققون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخرهم وانحطاطهم.

فنحن نعرف أشخاصاً - رغم انقطاعهم عن الله - يتسمون بالجدّية الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالإِستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلباته، ومقتضياته ومستجداته، ومن الطبيعي أن يحقق هؤلاء مكاسب كبيرة ويحرزوا إنتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في هذا الأمر - في الحقيقة - إِلاّ مطبقون لتعاليم الدين وبرامجه من دون إِسنادها إِلى الدين وإعطائها صفته وصبغته.

وفي المقابل، هناك أشخاص متدينون أوفياء للعقائد الدينية، لكنهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإِحجام، ويفتقرون إِلى الشهامة والإِستقامة ويفقدون عنصر الثبات والإِستمرار والإِتحاد والتعاون، وطبيعي أن يصاب هذا الصنف من الناس بإِخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة، ولكن هذه الهزائم والإِخفاقات ليست أبداً بسبب إِيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط والإِخفاق.

إنّهم يتصورون (وبالأحرى يظنون) بأنهم سيتنصرون بمجرد الصلاة والصوم في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة.

إِنّ لكلّ شيء سبباً، ولكل نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصّة، وقد أتى الدِّين بكل ذلك، وبيّنه في تعالميه وتوصياته، فلا يمكن أن يتحقق نجاح بغيره هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل.

وخلاصة القول: إِنه لدى كل طائفة من هاتين الطائفتين نقاط ضعف، ونقاط قوّة، ولكل واحدة منها آثارها ونتائجها الطبيعية، غاية ما في الأمر أنه قد تلتبس هذه الآثار وتشتبه على المرء عند التقييم والمحاسبة.

يمث: هناك كافر يتمتع لسعيه وجهاده واستمراره في أعماله بالحياة ويحقق في هذا المجال النجاح تلو النجاح، ولكنّه إِذ يفتقد عنصر الإِيمان بالله فإِنّه يفتقر إِلى نعمة الطمأنينة النفسية وفضيلة المشاعر الطاهرة، والأهداف الإِنسانية العالية.

يبقى أن نعرف أن ما ذكرناه من العوامل الثلاث لتقدم الكفار ونجاحهم، وتأخر بعض المؤمنين وفشلهم لا تصدق في مكان واحد، بل لكل واحد منها مورده ومجاله الخاص.

ثمّ إِنّ الله سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة، بيّن هنا - في الآية التي تلت تلك الآية - مصير المؤمنين، إِذ قال: (لكن الذين اتقوا ربّهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي إِن الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إِلى المكاسب المادية، أو أنّهم بسبب إِيمانهم تعرضوا للحصار الإِقتصادي والإِجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى، فإِنّه تعالى سيعوضهم عن كل ذلك بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها (نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار).

و"النّزل" في اللغة هو ما يعدّ للضيف من الكرامة والبر، وقال البعض: أنّه أول ما يقدم إِلى الضّيف النازل من شراب أو فاكهة.

وعلى هذا يكون معنى الآية أن الجنات المذكورة مع كل ما فيها من المواهب المادية هي أوّل ما يقدَّم يوم القيامة إِلى المؤمنين المتقين، وأمّا الضيافة المهمّة والعليا فهي النعم والمواهب المعنوية التي عبر عنها سبحانه بقوله: (وما عند الله خير للأبرار).


1- راجع كتاب وستر مارك، وكتاب "حقوق المرأة في الاسلام" والكتب الباحثة في مذاهب البشر وعقائدهم.