الآيات 190 - 194

﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرضِ وَاخْتِلَـفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاََيَـت لاُِّوْلِى الاَْلْبَـتِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَـماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ رَبَّنَا يمَا خَلَقْتَ هَـذَا بَـطِ سُبْحَـنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبِّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّـلِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلاِْيمَـنِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَأَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْلَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاَْبْرَارِ * رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

التّفسير

أهمية هذه الآيات:

لا شك أنّ جميع الآيات القرآنية تتمتّع بأهمية كُبرى لأنّها جميعاً كلام الله، وآياته التي نزلت لتربية الإِنسان ونجاته وخلاصه، وإِلاّ أنّ هناك من الآيات ما تحظى وتتميز على سواها ببريق خاص، ومن هذا الصنف ما نقرؤه الآن من الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء، فإِذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر، وتثير الشعور، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.

ولهذا أولتها الأحاديث والأخبار المروية أهمية خاصّة ومكانة سامية بين غيرها من الآيات.

عن "عطاء بن رباح" قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: وأي شأن لم يكن عجباً، أنّه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثمّ قال: ذريني أتعبد لربّي، فقام فتوضأ ثمّ قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره فركع فبكى، ثمّ سجد فبكى، ثمّ رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم لا أفعل وقد أنزل عليّ هذه الليلة: (إِنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب) - إلى قوله - (سبحانك فقنا عذاب النّار) ثمّ قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها"(1) والعبارة الأخيرة التي تأمر الجميع - بتأكيد كبير - بأن يفكروا في هذه الآيات، وقد رويت في روايت عديدة بعبارات مختلفة.

وفي رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إِذا قام لصلاة الليل يسوك، ثمّ ينظر إِلى السماء ثمّ يقول: (إِنّ في خلق السماوات والأرض...) إِلى قوله تعالى: (فقنا عذاب النّار)(2).

وورد عن الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة(3).

وعن نوف البكالي قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين(عليه السلام) فكان يصلي الليل كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إِلى السماء ويتلو القرآن - ويردد هذه الآيات ـ فمرّ بي بعد هدوء الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟.

قلت: بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين.

قال: "يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أُولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً... "(4).

التّفسير

أوضح السّبل لمعرفة الله:

آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التّلاوة والقراءة إِلاّ مقدمة لتحقيق هذا الهدف، أي التفكر والتدبر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الأُولى من الآيات الحاضرة يشير إِلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب)(5).

وبهذا يحثّ الناس على التفكر في هذا الخلق البديع والعظيم، ليصيب كلّ واحد منهم - بقدر إِستعداده، وقدرته على الإِستيعاب - من هذا البحر العظيم الذي لا يدرك له ساحل ولا قعر، ويرتوي من منهل أسرار الخلق العذب.

حقّاً أنّ هذا الكون العظيم بما فيه من نظام متقن وبديع، ونقوش رائعة، ولوحات خلابة كتاب بالغ العظمة، كتاب في كلّ حرف من حروفه، وكل سطر من أسطره دليل ساطع على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته، وتفرّده(6).

إِنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوت في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إِلى نفسه فؤاد كلّ لبيب وعقله شدّاً - يجعله يتذكر خالقه، في جميع الحالات، قائماً أو قاعداً، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه، ولهذا يقول سبحانه: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أي أنّهم مستغرقون كامل الإِستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه، ومبديه.

يولقد أُشير - في هذه الآية - إِلى الذكر أوّ، ثمّ إِلى الفكر ثانياً، ويعني ذلك أن ذكر الله وحده لا يكفي، إنّ الذكر إِنّما يعطي ثماره القيّمة إِذا كان مقترناً بالفكر، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يوصل إِلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر، وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر.

فما أكثر العلماء الذين يقفون - في تحقيقاتهم الفلكية والفضائية - على مظاهر رائعة من النظام الكوني البديع، ولكنّهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إِلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص، بل ينظرون إِليها من الزاوية العلمية المجردة البحتة، فإِنّهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج التربوية والآثار الإِنسانية، ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاماً ليقوى به جسمه فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه.

إنّ التفكير في أسرار الخليقة، وفي نظام السماء والأرض يعطي للإِنسان وعياً خاصّاً ويترك في عقله آثاراً عظيمة، وأوّل تلك الآثار هو الإِنتباه إِلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه، فالإِنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا الكون كيف يمكنه أن يصدق بأنّ الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف، ومصنوع من دون غاية؟

لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافاً واضحة فيها، وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر، وصمامات، وأبواب وبطون، فكلّ شيء فيه مخلوق لغاية، ومجعول لهدف، وكذا الحال في طبقات العين، بل وحتى الأجفان، والأظافر، كل واحد منها يؤدي دوراً، ويحقق غاية، فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جداً بالنسبة للكون العظيم أهداف واضحة وغايات ملحوظة، ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية الهائلة العظيمة أي هدف مطلقاً؟ (يربّنا ما خلقت هذا باط).

إِنّ العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إِلاّ أن يقولوا بخشوع هذه الجملة: (يربّنا ما خلقت هذا باط سبحانك) أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم، وهذا الكون الذي لا يعرف له حدّ، وهذا النظام المتقن البديع اِلاّ على أساس الحكمة والمصلحة، ولهدف صحيح، فكل هذا آية وحدانيتك، وكل هذا ينزّهك عن اللغو والعبث.

إِن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فوراً، وكيف يعقل أن يكونواـ وهم ثمرة هذا الموجود نفسه وهذا الكون بالذات - قد خلقوا سدى، أو جاؤوا إِلى هذه الحياة عبثاً، وأنّه ليس هناك من هدف سوى تربيتهم وتكاملهم!!

إِنّهم لم يأتوا إِلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أيّاماً سرعان ما تفنى وتنقضي، فذلك أمر لا يستحق كلّ هذا العناء والتعب كما لا يلبق بمكانة الإِنسان ولا يتناسب مع حكمة الله العليا، بل هناك دار اُخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها جزاء أعمالهم، أن خيراً فخير، وإِن شرّاً فشر، وفي هذه اللحظة ينتبهون إِلى مسؤولياتهم، ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنبوا عقابه، ولهذا يقول: (فقنا عذاب النّار) ثمّ يقول: (ربّنا إنّك من تدخل النّار فقد أخريته...).

ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإِنّه مستعد لأن يتحمل كلّ شيء من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيته، ولهذا فإِن أشدّ عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.

على أن النقطة الجديرة بالإِهتمام التي تنطوي عليها جملة (وما للظّالمين من أنصار) هي أن العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإِنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الإِنسان ونجاته هي أعماله وممارساته، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار، لأنّهم فقدوا النصير الأصلي وهو العمل الصالح، والتركيز على لفظة "الظلم" إمّا لأجل خطورة هذه المعصية من بين المعاصي الاُخرى، وإمّا لأن جميع الذنوب ترجع إلى ظلم الإِنسان لنفسه.

على أنّه ليست ثمّة أيّة منافاة بين هذه الآية ومسألة الشفاعة (بمعناها الصحيح) لأنّ الشفاعة (كما قلنا سابقاً في بحث الشفاعة) تحتاج إِلى قابلية وأهلية خاصّة في المشفوع له، وهذه الأهلية والصلاحية لشمول الشفاعة تحصل في ضوء بعض الأعمال الصالحة الخيرة.

ثمّ إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إِلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإِلهيين، ولهذا فهم يترصّدون نداء من يدعوهم إِلى الإِيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه، ويعتنقونها بعد أن يحققوا فيها، ويتأكدوا من صدقها وصحّتها ويؤمنون بها بكلّ وجودهم، ولهذا يقولون في محضر ربّهم: (ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإِيمان أن أمنوا بربكم فأمنا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار).

أي ربّنا الآن وقد أمنا بكل وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كلّ جانب، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية، ربّنا فاغفر لنا زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

يلقد اتصل هؤلاء بالمجتمع الإِنساني إِتصا عجيباً، وتركوا التفرد والأنانية إِلى درجة أنّهم يطلبون من الله في دعواتهم أن لا يجعلهم مع الأبرار والصالحين في حياتهم فحسب، بل يجعل مماتهم - سواء أكان مماتاً طبيعياً أو بالشهادة في سبيل الله - كممات الأبرار الصالحين أيضاً، أو يحشرهم معهم، لأن الموت مع الأشرار موتة مضاعفة، وعناء مضاعف.

وهنا يطرح سؤال وهو: ماذا يعني الستر على السيئات بعد طلب غفرانها؟

والجواب هو: مع ملاحظة بقية الآيات القرآنية تتضح حقيقة الإِجابة على هذا السؤال، فإِن الآية 31 من سورة النساء تقول: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) فيستفاد من ذلك أنّ السيئات تطلق على المعاصي الصغيرة، ولهذا فإنّ العقلاء ذوي الألباب يطلبون من اللّه في أدعيتهم وضراعاتهم أنْ يغفر لهم ذنوبهم الكبيرة، ويستر - عقب ذلك - على ذنوبهم الصغيرة، ويمحو آثارها من الوجود.

ثمّ أن هؤلاء العقلاء يطلبون من ربّهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا طريق الإِيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إِليهم، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: (ربّنا أتنا ما وعدتنا على رسلك)أي ربّنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة: (ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد).

إِنّ التركيز على "الخزي" يؤكّد مرّة أُخرى هذه الحقيقة الهامّة، وهي أن هؤلاء بسبب ما يرون لشخصيتهم من أهمية واحترام يعتبرون "الخزي" من أشد ما يلحق بالإِنسان من الأذى، ولهذا يركزون عليه دون سواه من ألوان العقوبات.

يوفي مستدرك الوسائل نق عن أبي الفتوح الرّازي في تفسيره، أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من كان له إِلى الله حاجة فليقل خمس مرات ربّنا يعطى حاجته، ومصداق ذلك في كلام الله في قوله تعالى: (يربّنا ما خلقت هذا باط) إِلى آخر الآيات فيها ربّنا خمس مرّات ثمّ قال تعالى: (فاستجاب لهم ربّهم)(7).

ومن الواضح الذي لا يخفى أن التأثير الواقعي والعميق لهذه الآيات، إِنما يتحقق إِذا وافق اللسان في ما يقوله القلب والعمل، وأن يحل مضمون هذه الآيات الذي يكشف عن طريقة تفكير اُولي الألباب وشدّة حبّهم لله، وإِحساسهم بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم، والقيام بواجباتهم، في فؤاد قارئها وقلبه، فيحصل له نفس ذلك الخضوع والخشوع الحاصل لأُولي الألباب عند مناجاتهم لله، وتضرعهم إليه.


1- أسباب النزول للواقدي في تفسير هذه الآية وتفسير المنار وتفسير مجمع البيان.

2- تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 111، وتفسير أبي الفتوح الرازي في ذيل هذه الآيات.

3- تفسير نور الثقلين ومجمع البيان.

4- المصدر السابق.

5- سفينة البحار، مادة نوف، ج 2، ص 622.

6- التعبير بأُولي الألباب - في هذه الآية وآيات عديدة اُخرى في الكتاب العزيز - إِشارة لطيفة إِلى أرباب العقول، لأن اللب من كلّ شيء خيره خالصه، ولا شك أنّ العقل هو خير ما في الإِنسان، وهو عصارة وجوده الإِنساني.

7- لقد بحثنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في معنى اختلاف الليل والنهار وأسرارهما عند تفسير الآية 164 من سورة البقرة فراجع.